عندما كان تي. أس . اليوت يترجم قصيدة أناباز لسان جون بيرس , كتب للشاعر الفرنسي ليخبره بأنه يعد هذه القصيدة واحدة من أعظم التحف في العصر الحديث , وكان من النادر بالنسبة لاليوت أن يصرح بمثل هذا المديح لشاعر من معاصريه , حيث اعتاد أن يعبر عن مثل هذه الامور بدبلوماسية عالية .
أراد اليوت لإشارته عن بيرس ( 1887- 1975 ) أن تكون تعبيرا ينم عن قناعة حقيقية بخصوص تقييمه لشعره .
قرأت ترجمة اليوت لقصيدة أناباز قبل ثلاثين عاما ,وفي ذهني صورة إعجاب مشوشة عنها , لكنني لاأستطيع تذكر أي من مقاطعها, فدفعني اليوت في رأيه المذكور باحدى رسائله التي نشرتها جامعة ييل عام 2012 لإعادة قراءتها مترجمة من قبله ضمن أعمال بيرس الكاملة التي طبعتها جامعة برنستون عام 1971.
يفتتح الكتاب بمقالة معنونة ( عن الشعر ) ترجمها اودن لخطاب سان جون بيرس الذي ألقاه عند تسلمه لجائزة نوبل للآداب عام 1960 .
يقدم بيرس في هذا الخطاب عرضا للقناعات التي يؤمن بها الشعراء , غير انهم قلما ينجحون في التعبير عنها بمثل هذا النثر الرائع الذي يجمع بين رصانة الأفكار المتماسكة منطقيا وبلاغة رفيعة المستوى يتجلى فيها بهاء اللغة وتفوقها .
يبدأ بيرس بالقول إن الشعر نادرا ماحظي بالتقدير الجماهيري فالمجتمع محكوم بسيطرة الجانب المادي ومن أجل إشباع عبودية التملك يعطي الناس اهتماما أكبر للأشياء المادية المكلفة أكثر من المتعة المجردة التي يقدمها الفن أو الاكتشاف العلمي , وبالاشارة الى اينشتاين وهيسنبرغ يؤكد بيرس بأن رجل العلم منخرط أيضا بعمل شعري ابداعي , وفي ذروة انشغاله لجعل اكتشافه مميزا ومبهرا يتوجب على العالم أن يستفيد من الحدس لإلهام العقل , فالوجود ماهو الا متاهة عمى يهيم فيها كلا الشاعر والعالم , ويظلان يحاولان السيطرة على الفوضى ونقل الشفرات الحسية وتحويلها إلى صورة ثابتة واضحة التعريف للحقيقة , والشاعر وحده من يستطيع اكتشاف سحر اللغة التي يعبر بواسطتها عن الايقاع المتسامي للكينونة لإظهار الحقيقة المتعالية , مضيفا بأنه خارج حدود الحاجة الشعرية فإن الأديان جميعا ولدت مستفيدة من الوهج الشعري للحفاظ على شرارة المقدس حية خالدة , ضوءا في حجر الصوان البشري .
إن مايسبر غوره الشعر هو ظلام الروح , عتمة الغامض المبهم الذي يغلف الوجود البشري , وأكثر مايعبر عن عظمة الشعر هو الغوص على دواخل الروح العميقة ,انه الحج إلى عالم الذات الداخلي الذي أغوى اليوت أيضا .
في المقطع الاخير من رباعياته الأربع , أي بعد مرور ثلاث سنوات من ترجمته لقصيدة أناباز , يصل اليوت إلى خلاصته الروحية عن الزمان والمكان , معلنا بأنه يجب أن لانتوقف عن البحث والاستقصاء , ونهاية بحثنا تكون في الوصول إلى حيث بدأنا ومعرفة المكان للمرة الاولى , وهي الثيمة المركزية التي يتردد صداها في قصيدة سان جون بيرس.
استفاد بيرس في قصيدته من ( أناباز ) التي الفها الفيلسوف الاغريقي والجندي زينوفون ,وهو أحد مريدي سقراط الذي يروي قصة قيادته لعشرة آلاف من المرتزقة الاغريق عبر صحراء بلاد مابين النهرين بعد خسارته لمعركة حاسمةمع جيش الفرس قرب بابل عام 401 قبل الميلاد .
انها صورة مجازية للكفاح البشري في عالم عديم الرحمة مستنبط من اناباز زينوفون : فلدينا الرحلة الطويلة عبر الصحراء , ثم الجبال الجليدية , بكل ماتعنيه هذه الرحلة من جوع وعطش حتى الوصول الأخير للوطن على ساحل البحر الأسود .
هاهي الروح تتحرر في النهاية من الآلام الجسدية , وهي رحلة دائرية من اليأس والأمل , الهزيمة والانتصار , وقد عبر اليوت عن تلك الفكرة في بيته الشعري : ( في بدايتي نهايتي ) في المقطع الثاني من رباعياته الأربع , فالمنفي يعود إلى وطنه أخيرا , والجسد الذي تحمل شتى أنواع المشقة نجا بعد صراع , والنغمة الناشزة للعناء الجسدي تم استنشاقها أخيرا , وبخفوت بدأت تسمع من هناك قصيدة الشغف السماوية .
في أجواء تلك اللحظة الساحرة من تجليات الفنان الشاعر تحقق الروح حريتها الكاملة , ومثل يمامة بيضاء تطير حرة منتشية بمتعة التحليق في فضاء المطلق الأزرق .
يركز بيرس في قصيدة ( أناباز ) على فكرة تجريدية لذلك التدرج الرمزي محاولا أن يخلق قصيدة تفلت من اطار الزمنية باشارة فقط في العنوان تحيل الى تأثره بكتاب زينوفون .
( أناباز ) قصيدة صعبة الفهم , وعندما نقرأها نعيش روح الشعر الصافي , ويصلنا احساس بحدوث فعل عاجل , ونحن نرى الشخوص الضبابيين قلما يتحركون وسط الدخان والغبار ,في مشهد معركة , والهواء الكثيف مليء بالأصوات المعبرة عن اصطراع مشتعل لبشر غير مرئيين , لكن , وبرغم هذا الانطباع الذي يصلنا عن طبيعة هذا المشهد سرعان مايعقبه مايشبه الفراغ والصمت فيما تستمر الذاكرة في التدفق لنصل الى قناعة بأن مانقرأه هو شعر ليس الا , لايحتاج الى اعادة تقطيع وصياغة , هو جواب اذن يقول بأنه لسوء الحظ فأن أصواتا مثل أصوات السحر تريد أن ترى رؤية خارقة تزوغ من قدرتنا على الامساك بها .
ربما كان ذلك مجرد تصنع حاذق , وهو مادعا اليوت ليقول في مقدمة ترجمته لاناباز بأن القصيدة لاتحتاج لمقدمة اطلاقا , وبأن القارئ سيحصل على الكثير بمجرد قراءتها ست مرات , وبدلا من ذلك يحاول اليوت جاهدا اضافة ملاحظة توضيحية ( القصيدة سلسلة من الصور المتدفقة , بحث عن فضاءات شاسعة في اراضي اسيا البور , رحلة من الهدم وتأسيس المدن والحضارات لكل الأعراق والأصداء للشرق القديم ) .
حقا أن هذا السرد الفضفاض يمكث في عقل القارئ الشغوف , لكن قراءة القصيدة ثلاث مرات ومقارنتها بالأصل الفرنسي الذي يجب أن يكون الانطباع الأول للشعر الصافي قد وصل من خلاله , لفتت انتباهي بدلا من ذلك الى تفاصيل عمل شعري تقليدي , بقيمة عادية , مما حداني للتساؤل عما دار في ذهن اليوت حينما قال بأن هذه القصيدة هي واحدة من أعظم القصائد في العصور الحديثة .
الأمر ليس هكذا بالتأكيد , الجملة الأخيرة القصيرة بكلماتها الخمس البسيطة مسبوقة بوقفة طويلة , وقد صدمت لأنني لم اتفق مع اليوت ( الذي يمثل بالنسبة لنا كما كان باوند بالنسبة له صانعا ومعلما كبيرا ) وتساءلت فيما اذا كنت قد اخفقت في قراءة القصيدة .
ناقشت الأمر مع الشاعر البريطاني كريستوفر ميدلتون وهو من أبرز شعراء الانكليزية الأحياء بالاضافة الى امتلاكه معرفة عميقة بالأدب الاوربي وقد ترجم أعمالا مهمة من الفرنسية والالمانية , فقال لي بأنه قبل ستين عاما كان ينظر باعجاب الى قصيدة بيرس , لكن اعجابه تقلص بشكل ملحوظ , اذ وجده غريبا وهي الكلمة التي كنت اقاومها , لكن أن أسمعها بشكل خافت الى حد ما من شاعر بمكانة ميدلتون وأهميته جعلني أشعر بأن هناك شيئا محيرا في الكثير من شعر بيرس , وعمدت الى قراءة ترجمة اليوت مرة اخرى وبعض النص الفرنسي .
وهنا في الصفحة الاولى أمثلة عن ( الكتابة التي قد تبدو للقارئ العادي شعرا استثنائيا مثلا :
لذلك طاردت مدينة أحلامك،
وأسست في الأسواق المهجورة
تجارة روحي الخالصة.
واحدة من الخصائص المشتركة بين الشعراء الذين يتشوقون للظهور بمظهر مبهر امام قرائهم المخطوفين من شدة الاعجاب هي انهم يستخدمون كلمات مثل الحلم والروح بنص تجريدي يبدو فخما ويفترض القارئ بأنه ملئء بالمعنى العميق , لكن التأمل الفاحص يظهره عديم المعنى وإنه لا يعدو كونه هراء محضا .
يا للقارئ الذي يطارد المدينة- اعتذر أيتها المدينة – لأحلامك , دعيني أعرف في المرة القادمة عندما تقرر روحك أن تقوم ببعض الاعمال التجارية في السوق , سأتي بسلتي الملأى بالأحلام وعندها يمكن لنا أن نقوم بمبادلات تجارية , كيف حصل انني لم الاحظ مثل هذا النفخ السطحي ؟
بوصفنا قراء من السهل أن نجد أنفسنا أحيانا أمام حالات اعجاب غير حقيقية ببعض الكتاب الذين تتبختر سمعتهم أمام أعيننا قبل أن تتمكن هذه الأعين من النظر الى أعمالهم المكتوبة , انها القصة القديمة لثياب الامبراطور الجديدة .
الصفحة الثانية من أناباز بيرس فيها مقطع ينتهي بالسطر : ( الأبدية تتثاءب على الرمال ) وقد توقفت عنده محدقا وغير متأكد من دلالته , الأبدية تتثاءب على الرمال ؟
كيف لشاعر جاد , وليس مجرد هاو أن يعد هذه الكليشيه المستهلكة , شعرا رفيع المستوى ؟ وهناك الكثير مما ترجمه المعجب تي . أس . اليوت الذي يفترض انه لاحظ ان القماشة التي بين يديه هي ليست قطعة حرير لكنها محض ثياب قديمة رثة .
بعد بضع صفحات نقرأ ( روحي , الحذرة بشدة عند بوابات الموت )متبوعة بالعديد من الصور الجوفاء , لكنها عبارات رنانة شعريا حتى الأخير من دون أن تقدم تجربة تظهر تميز النشاط الروحي الذي دفع ثمنا مكلفا بسبب عذابات الجسد القاسية .
لست مضطرا لنفي حقيقة انني أتحدث بغضب لأن صنما كان عزيزا عندي يوما يسقط الان من يدي مهشما إلى عدة شظايا مكونة من طين عادي كان يشكل جسدا ادرك الان بأنه فارغ من الداخل , انه عالم طيني .
قد يبدو هذا الاغداق المتنافر بالنسبة للاذن الانكليزية طبيعيا وله صدى مبهج بالنسبة للفرنسيين, لاختبار هذا المفهوم , تصفحت محموعة شعرية لشاعر مهم آخر , ايف بونفوا , ببضع صفحات نطالع ( نحن الوهم الذي يسمى الذاكرة ) و ( عندما يتوقف الزمن ) في الصفحة التالية .
أبدأ بسماع دندنة واهنة مزعجة في اذني , وبعد بضع صفحات قليلة ( الظلال خبزهم , والرياح ماؤهم ) وهنا بدأت الدندنة تتحول إلى طنين .
ثمة العديد من الظلال في قصائد بونفوا ( لديك ضوء كاف على الرمال , لتلعب مع ظل جسدك ) وغالبا مانرى هذا التعبير عن فكرة تبدو عميقة لقارئ ساذج , لكنها مجرد كلام عادي : ( انهم يتقدمون مع فخامة الأشياء البسيطة )
انتظر لحظة …
أنا محاط بالعديد من الاشياء البسيطة , أقلام , ورق , مصابيح , موز و لكنني لم اشاهدها تتقدم , او تطارد وحيدة بما يظهر انها تمتلك أي نوع من الفخامة , واذا حصل هذا كما يقول ذلك البيت الشعري المذكور بشكل أكيد من ان الفخامة تعود بشكل حصري الى الأشياء البسيطة فان ذلك يجب أن يكون متبوعا , استنتاجا , بعدم توفر الأشياء المعقدة على أي نوع من الفخامة , حسنا , فلنضع موزا جوار طائرة الأحلام بوينغ 787 , ولنر أي منها يتقدم مع الفخامة , طبعا , لاأنكر إنني وبوصفي أجنبيا قد أكون أعمى وأصم بالنسبة لبعض السياقات الأجنبية التي تخلق غريزيا بالنسبة للفرنسيين نسيجا عميقا للفهم من الصعب جدا للغريب مثلي أن يتفاعل معه ويستوعبه, لكن الفخامة هي الفخامة في أي لغة والأشياء البسيطة هي واحدة لكل المجتمعات , وليس بامكاني أن أفهم كيف لشخص فرنسي أن لايعد هذا محض هراء عادي .
انه الدوار الذي خلفه الشعر البرناسي القديم الذي يعتمد على الكثير من التجريدات عن الظلال , الوهم , الأبدية والفخامة بافتراض ان قصيدة الشاعر ستتوفر على فكرة عميقة أو تحوز على الختم المضمون لما يعتقد بأنه ( الشعر ) .
يهمني أن اؤكد هنا بأن ظلالا ووهما وأبدية توجد في بعض قصائدي مع ثقتي المتحررة من الوهم بأنني أستخدمها بدقة منطقية .
لدينا ظلال وظلام روحي في الكثير من الشعر , في ماكبث شكسبير نرى مثالا أساسيا وصورة الظل الزاحف على الساعة بالنسبة للعديد من الشعراء الشباب تعكس تمثيلا رمزيا دراماتيكيا يعبر عن الزمن الذي يبتلعه الظلام .
وبخصوص الشعراء الجادين الذين يفترض انهم يعرفون عملهم , يمكن القول بأنه بعد بودلير , مالارميه , رامبو , تمزقت صورة فخامة الظل حد التلاشي, لكن , وكما يبدو واضحا فان كل جيل شعري ملزم بالمرور بعملية تدوير ذاتية لانتاج نماذج متواضعة إلى أن يظهر شاعر جديد ينقي لغة العشيرة كما يقول مالارميه .
* روائي وشاعر وكاتب مقالات أميركي من أصل باكستاني