لطالما كان الشعراء الأكثر حيوية ونشاطا وحديةً في الموقف هم أكثر الشعراء جدلاً و اختلاف آراء المتلقين حولهم.
و مظفر النواب كان ظاهرة حقيقية اعتادت أن تكون مثيرة للجدل و تباين المواقف. فالشاعر المولود
عام 1934 في مدينة الكاظمية ببغداد ومن أسرة تمتهن التجارة، حيث تنقل خلال مسيرته إلى عدة بلدان
و أماكن و بيئاتٍ ضُمَّنت بشكل أو بآخر في    التكوين الشعري والإنساني للنواب. بالإضافة إلى كونه معلماً
للغة العربية في أرياف العراق في العهد الملكي – – عندما كان الريف العراقي شبه معدوم وبائس المعيشة –
كان محتكاً بشكلٍ كبير بالطبقة الفقيرة التي كُتِب عليها أن تبقى حبيسة الفقر و الجهل. فيما بعد أصبح النواب
شيوعيا بالفطرة بعد انخراطه بالمجتمع الريفي و هذا ما جعله في اصطدام مستمر مع مفهوم “السلطة”
بشكل عام ومع سلطة العراق بشكل خاص. حتى أن صراعه مع السلطة تعدى حدود العراق حيث بدأ بمشاكساته
مع المنظومة السياسية العربية التي لم تتعامل مع الكثير من القضايا السياسية بالشكل الذي
يرضى عنه النواب و الشيوعيون أمثاله. فاشترك مع الحزب الشيوعي في حرب لبنان و فلسطين وغيرها. كما
أن البنية الفكرية التي يتبناها النواب هي عدم إيمانه بالحدود و المسافات بين البلدان فتراه يقول في إحدى
قصائده :
أنا ملك الترحال على قدميّ
و تاج التيجان على رأسي حبَّة قمح
يطردني الحُكام فأمضي مبتسماً
هذي أرضٌ واحدةٌ و لكن الحكامَ كثيرون…
وهذا انعكاس للفكر الشيوعي الذي ينظر  إلى أن البلاد الانسانية مفتوحة الحدود مشتركة المعاناة و يجب أن تُطبق فيها المنظومة الشيوعية من أجل إحلال العدل و بناء المجتمع المتساوي في كل شيء بالإضافة إلى ظروف النواب التي جعلته يسأمُ المطاراتِ و رجال الأمن و خطابات الزعماء و القادة الذين يتهمهم بالكذب و الخيانة و يصفهم بأقذع الأوصاف و أرذلها .
و هكذا هو حال الشعراء عبر التاريخ، يحلمون
بخيالهم الأخاذ الواسع بالحكم أو بنقد السياسة، ولكنّهم يفشلون في إدارة حياتهم الشخصية بعض الأحيان.
النواب لم يُهادنْ أي سلطةٍ مرت على العراق حيث كان موقفه حِديا و قاطعًا لا رجعةَ فيه حتى يوم وفاته.
ظلَّ حزينا متنقلا بين الأقطار يعيش اغترابًا حقيقيًا بينه و بين المجتمع الذي يعيش فيه فتراه يقول:
أصابحُ الليلَ مصلوباً على أملٍ
أن لا أموت غريباً مِيتة الشبحِ
من منا يفكر كيف يموتُ الشَّبح أو الكائنات غير المرئية؟ من منا يفكر كيف تموت الكائنات التي لا نسمع
صوتها؟ كالنباتات مثلا، و لكن الشعرية هي اللحظة التي تنفجر فيها الأشياء غير المرئية في حياتنا، لتؤسس
بنيانًا في الخيال ما لا يمكن للبشر تطبيقه. و لكنه الاغتراب الذي يجعل المرء يستنطق الحجر، و يُشجي بَعَر
الأرآم.
النواب في الشعر الشعبي العراقي :
ليس معلوماً بالتحديد بداياتُ الشعر الشعبي العراقي، فالنصوص الواردة مبتورةٌ أو غير واضحة الملامح. و لكن
تشير بعض الآراء أن أحد النصوص الكاملة و المهمة و الأولى يعود إلى الشاعر الجنوبي عبد الحسين صبرة قبل مئة و
خمسة عشر عاما وهو:
بحشاشتي سهمك مضى
و عُگبك عليَّ ضاك الفضا
فكان الشعر الشعبي كلاسيكيا في مبناه و معناه، يتجه للنعي و الإنشاد، أكثر من مفهوم الشعر المنفتح على عوالم أوسع.
كما أن الشعر الشعبي كان أغلبه شعرا حسينيًا يتم إنشاده في مجالس النعي في شهر محرم. و لم يذكر تاريخ الشعر الشعبي
تنوعا كثيرا في قصائده سوى بعض الدراميات و الأبوذيات و قصائد مبتورة.
ومما أذكره الآن هو رثاء الشاعر الحسيني
عبد الأمير الفتلاوي لزوجته وهي من النوادر أن يتم رثاء الزوجة بالشعر في المجتمعات القبلية حيث قال:
عني تروح وانت الروح من فركاك
عگلي وياك روحي وياك اروح وياك
اروح وياك اخذني وياك روحي تروح
ركص الطير ركصي لو ركص مذبوح
إهن روحين صارن روح بروح
يا سلوة وسلاني الموت كون أسلاك
لذا فإن التجربة الفارقة في تاريخ الشعر الشعبي كانت تحويل النوابِ “شعر التفعيلة الفصيح” و إدخاله
إلى المفاهيم الشعرية الشعبية، فانتقل الشعر الشعبي من لغة المهاويل و الريف و المشاكل العشائرية
اليومية، إلى لغة الانفتاح و المشاكل الوجودية العصرية بلغة هجينة حاول أن يمازج بينها النواب وهي
لغة المدينة و الريف. ربما نجح في بعض القصائد مثل الريل والحمد، و لكنه لم تستطع هاتان اللغتانِ من
الاندماج فكان من سار على خط النواب من الشعراء الشعبيين قد انخرط كلٌ في لهجته وتعبيراته، إن
كان مدنيًا، أو ريفيًا.
بقيَ الشعر الشعبي العراقي حتى هذه اللحظة مدينًا للنواب بشكل كبير حيث يُعدُ النواب عرابه الأول،
على الرغم من تردي حالة الشعر الشعبي العراقي حاليا حد الرثاثة و الإسفاف، إلا أنه مر بفترة ذهبية
ظهر فيها شعراء مهمون تناولوا قضايا مجتمعهم و آرائهم بشكل شعري جريء و مهم أمثال عريان
السيد خلف، كاظم الكاطع، ذياب كزار .علي الشباني وغيرهم ممن نحى منحى النواب .
النواب ظاهرة تتميز بالجرأة و التغير المستمر والجدل والاختلاف القائم حول ما إذا كان شاعرا مهمًا أو
كونه مجرد شاعر اعتيادي، و لكن على الرغم مِن كون النواب أخفق كثيرا في تناوله للقضايا التي عاصرته
حيث مال إلى التطرف حينا في مناداةِ القتل والعنف، و إلى ضعف قصائده وتذبذبها في بعض الأحيان.
إلا أنه يبقى مؤثرا و مجددا و مبدعا.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *