لم يحظَ القطاع الزراعي باهتمام الحكومات العراقية المتعاقبة، رغم أهميته القصوى ووجود عوامل مشجعة بشرية ومناخية ومالية وفنية، وأدى الإهمال الى إضعاف الإنتاج المحلي، وربط التغذية بالخارج، ومع تذبذب الحال الإقتصادية، تدهورت الحال الغذائية واقتصاد الفرد، وأنتجت مزيداً من الفقر والعاطلين، وتهدد بكارثة بشرية أن استمر تراكمها.
استخدمت سياسة العوائد النفطية، بالمقام الأول لتمويل إنفاقات الدولة، وحولت الاقتصاد العراقي الى استهلاكي، ولم ترصد الأموال لزيادة الأراضي المزروعة، التي أصبحت تشكل نسبة ضئيلة من الأراضي الصالحة للزراعة، رغم توفر الأيادي العاملة والإمكانات، ويشكل حجم المياه في العراق ربع المياه المتاحة في العالم العربي، رغم المشاكل التي تثيرها الدول المجاورة.
اعتمد العراق على إيرادات النفط، كمصدر أساس لمالية الدولة، واتجه القطاع الزراعي للاعتماد على استيراد الأدوات المختلفة اللازمة للإنتاج، واستيراد المواد الغذائية الجاهزة للاستهلاك المحلي، وكلما زادت الإيرادات، أضعفت الإنتاج الزراعي، مع عدم الاعتماد على التقدم العلمي في الأساليب الزراعية وعن ندرة المكننة الحديثة والرعاية البيطرية والمبيدات، ولا يمكن مواجهة هذه المشكلات، دون بناء واقع زراعي بعد حروب، لها تأثير مستمر وخطير على المنتجات الزراعية والصحة العامة، وتتطلب معالجتها رصد أموال طائلة تفوق بكثير المقدرة المحلية. وبالتالي سوف تضطر خطة ما بعدها، الى إضافة مستمرة لديون وستكون خدمتها عبئاً ثقيلاً جداً على كاهل الأجيال القادمة.
يحتاج تمويل الزراعة الى زيادة رأس مال المصرف الزراعي وإعطاء الزراعة حيزاً مناسباً ضمن الموازنات العراقية، وتغيير قوانين الاستثمار، التي لا تنسجم مع الاقتصاد العالمي، ومعوقة للتنمية الوطنية بدل تحفيزها، وما يزال الاستثمار الزراعي ضمن تقاليد قديمة تمنع تملك الأجنبي للأراضي الزراعية، وقوانين معرقلة كقوانين الشركات والاستثمار والضرائب، وعدم مساواة القطاع الزراعي بالصناعي من حيث منح الامتيازات الضريبية والمالية، وأدت المعاملة غير المشجعة الى إفلاس شركات زراعية وفلاحين ومنها شركات الدواجن، مع غلاء المواد الإنتاجية والاستهلاكية.
يمكن تبني خطة اقتصادية وبرامج مالية، تضعها أطر علمية وفنية متخصصة ترصد الأموال لإصلاح الأراضي وإعادة بناء البنية التحتية الزراعية، وتتطلب سياسة مناسبة تثبت الأسعار، بما يناسب القوة الشرائية وإعانات المزارعين لمواصلة وتطوير الإنتاج، ليس نقدياً فحسب، بل عينية مثل؛ بيع الأسمدة وتأجير الآلات بأسعار زهيدة وصيانة المنتجات الزراعية من الأمراض وتلقيح الحيوانات وتقديم الإرشاد الفني مجانا، الذي يقود إلى زيادة قيمة الناتج المحلي الإجمالي، مع سياسة تسعيرة إجبارية وإعانات، تحسن مستوى الدخول، وبعدها يمكن تحرير الأسعار، وفق معيار الدول غير النفطية، ولا تنازل للدولة عن توفير ظروف تحسين الزراعة، وإعطاء قروض ذات فوائد منخفضة للمزارعين، للمساهمة في التنمية الزراعية والحيوانية.
قاد عدم سيطرة الدولة على أسعار المواد الغذائية، الى إضعاف الاستثمارات الزراعية، وزياد الهجرة من الريف الى المدينة، نتيجة تدني الخدمات التعليمية والصحية والبلدية، وأصبحت التغذية تعتمد على الخارج، دون الإلتفات الى تنويع الناتج المحلي، وأسهم إهمال القطاع الزراعي في تراكم الديون الخارجية للبلد، ويعتمد كفاءة الزراعة على متغيرين هما،هبوط عدد العمال الزراعيين وزيادة الإنتاج الزراعي، وانخفاض عدد هؤلاء نتيجة تفاقم البطالة في الريف وتزايد الهجرة إلى المدن، وتقلص العمالة الزراعية، وعدم استخدام الأساليب العلمية والتكنولوجية، والتي تتطلب رصد أموال طائلة.
يستطيع العراق الاكتفاء الذاتي، وتصدير كميات كبيرة من المواد الزراعية، التي اصبحت شبه متوقفة، مع انعدام مصداقية الإحصاءات الرسمية، والذي سبب تحليلات خاطئة للمشاكل وطرائق حلولها، ويصعب تقدير الناتج المحلي والحاجة الفعلية، وسرعان ما تظهر مشكلة ترتبط بالقوة الشرائية وتناسبها مع الإنتاج وزيادة العاطلين، وانخفاض المخزون تحسباً لأي طاريء، سيما مع المتغيرات العالمية التي تعتمد الإنتاج الزراعي، وتشكو الحصة التموينية من نقص البروتينات والأملاح والفيتاميات، ما يتطلب تعويضها من السوق المحلي المستورد معظمه، ويؤدي الى الضغط على دخل العائلة.
كان من اللازم البحث عن تفسير آخر في الإنتاج المحلي، ومثلاً انخفاض هطول الأمطار، أدى الى جفاف في مساحات شاسعة من الجنوب، وضحيته عدد كبير من المواشي، أفضى تراجع الزراعة الى تدهور الإنتاج الحيواني، بسبب قلة التلقيح والمواد الغذائية، وانعكس على ارتفاع اسعار اللحوم، ويتفاوت ذلك من منطقة الى أخرى، كما يؤثر على شرائح الشباب والأطفال، وإنتاج جيل هزيل من الناحية البدنية والثقافية والاقتصادية، يرضخ لعادات خلقتها الحروب ويصعب معالجتها.
ستكون المتغيرات الاقتصادية العالمية، كارثة على الشعب العراقي، وتتطلب معالجات عاجلة وأموالاً طائلة، لإبعاد أعبائها عن الأجيال القادمة، ويتعين دعم القوة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود، ورفع الإنتاج الزراعي والصناعي، وتشجيع الاستثمارات، وإتباع سياسة ملائمة للإنتاج والاسعار، ودعم المنتوج المحلي، وتنمية الاستثمارات الزراعية، وتدعم حصة العوائل الفقيرة، وبحساب مدة كفاية الحصة التموينية، وما يقلل من عندفاع الفرد الى السوق المحلية المستوردة.