النفس كالفرس الجموح تحتاج الى وقت وجهد كي يسهل تسييسها وقيادها، ومتى ماكان ذلك كانت أطوع من اليدين وهناك الكثير ممن عرفوا بترويض النفس، بحيث لو أمروا انفسهم بعدم شرب الماء لأمتنعت، ولو أقحموها بالنار لأقتحمت، بالنفس لايصح الجمع بين التسامي والتسافل، فكلاهما على طرفي نقيض الا اذا صح وضع قطع النار في الثلاجة، لإن طبيعة الظرف لاتتناسب وطبيعة المظروف، لما إشتملت عليه طبيعتهما من الاختلاف .
هناك نقطة مهمة لكي يكون المحل قابلا لاستقبال الفيوضات الربانية، لابد ان يكون صقيلا مشذبا عن كل شائبة، ولا يكون ذلك إلا برياضة النفس وتطويعها وإجبارها على الصبر ومكابدة الهوى والتغلب عليه، للنفس مكان واحد لايتسع للإبداع والتكسب في آن واحد، لإن حقيقتهما مبنية على التضاد والتنافر، فمتى ما إستحكم أحدهما طرد الآخر، فكم من مبدع إنتابته حمى وهوس المادة فلم يبق للابداع محل يؤويه وغادر الى غير رجعة .
لرب سائل يسأل لم بني التصور على عدم الجمع؟ والعقل لايمنع من ذلك، الجواب يكمن في حقيقة الابداع نفسه، فهو تمرد على القوانين او هو حالة من الالق، تتجه للأعلى على عكس المادة الداعية الى التثاقل واللصوق في الارض، كذلك يستحيل إقتران الإبداع مع النوازع والمصالح الشخصية، فيعمل بذلك كالآلة المستخدمة لإستخراج الذهب من المناجم، بحيث تسحب الاحجار على إختلافها، على أمل أن يأتي معها ذلك المعدن النفيس، وهكذا يتحول المبدع من شعلة وقادة الى نار لاتبقي ولا تذر لها فم يلتهم كل شيء .
عندها يبدأ بأستهلاك نفسه قبل غيره، لإن ماهية الابداع إختلفت عنده فبدل من أن تكون إنتصارا على الذات، أصبحت إنقياد وهزيمة، هنا يبدأ أسم المبدع بالتآكل الى آخر حرف منه، فالابداع يخبو شعاعه لحظة لمعان الذهب وبريقه في النفس، ولحظة ابدائها مراسم الخشوع للرغبات والهوى، فأخلاص النفس ونقائها وتجردها عن كل شائبة هو شرط ابداعها.