منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة تضمن توجيه سلوك الفرد والجماعة وضبطه بشكل محقق للخير العام، وسعادة الانسان، بما في تعظيم انتاج المجتمع وعدالة التوزيع على مستوى السلطة والثروة والانتفاع العام بخيرات الطبيعة. وكل هذا ما يمكن ان نفهمه من قوله تعالى:”يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ”.
ان الدعوة الى الدولة الحضارية الحديثة، بعد الايمان باصل الفكرة كعنوان عام، تعني ضبط وتوجيه سلوك الفرد والمجتمع والدولة بموجب القيم العليا وباتجاهها بوصفها مؤشرات للسلوك الصحيح.
يتعلق الامر بعمل الانسان او نشاطه. واعمال الانسان نوعان: نوع محصور بدائرة الانسان نفسه (العلة الفاعلية والعلة الغائية)، ونوع يتعدى الى المجتمع المحيط (العلة المادية). ورغم اهمية النوع الاول واثره المباشر او غير المباشر على النوع الثاني، فان النوع الثاني من الاعمال هو المقصود بالدعوة الى الدولة الحضارية الحديثة.
تتضمن الدعوة الى الدولة الحضارية الحديثة تغييرا على ثلاث مستويات: تغيير الفرد، وتغيير المجتمع، وتغيير الدولة. ويتم هذا التغيير على اساس منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، بمعنى جعل اعمال الفرد والمجتمع والدولة مجسدة لهذه القيم وملتزمة بها. وهذا مصداق قوله تعالى:”إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”.
تجري عملية التغيير في البيت والمدرسة. واذا كان البيت امتدادا لحالة التدهور في منظومة القيم العليا، كما في المجتمعات المتخلفة، فان المدرسة سوف تكون المسؤولة عن التغيير الحضاري (اي التغيير في حلقاته الثلاث على اساس منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري).
وقد يبدو الامر معقدا او متناقضا بعض الشيء. فالمدرسة، في النهاية، هي ايضا مؤسسة في مجتمع متخلف وفي دولة متخلفة. لكن لا مفر من ذلك. ستكون المدرسة، والمدرسون قادتها، كمن يسبح ضد التيار، والتيار قوي، لكن لابد من مواجهته في المدرسة، حيث سيكون النجاح في التغيير في اطار المدرسة شرطا للنجاح بعد ذلك في اطار المجتمع والدولة.
من هنا يتعين على من يرفعون شعارات الاصلاح ويدعون اليها ان يركزوا على الاصلاح التربوي، وتوجيه جزء مهم من موارد العمل التغييري الى النظام التربوي الكفيل باحداث التغيير المطلوب.
ومن هنا جاءت دعوتنا الى ضرورة وضع نظام تربوي حضاري حديث يستغرق تطبيقه ١٢ سنة متداخلة، ويكون هدفه تنشئة مواطنين فعالين حضاريين يمثلون اللبنات الاولى في المجتمع المتحضر والدولة الحضارية الحديثة.
وفي المجتمع العراقي، حيث يتجمع اعداد كبيرة من الناس في مناسبات دينية في مقدمتها صلاة الجمعة والجماعة وشعائر احياء ذكرى ثورة الامام الحسين، يكون من الممكن دعم اهداف التغيير الحضاري من خلال ما تطرحه خطب الجمعة من مفاهيم تربوية تصب في مجرى هذه الاهداف.
وبذا تلتقي المدرسة مع المسجد في الجهد التغييري الحضاري. ويمكن ان يعضدهما الاعلام الهادف المؤمن باطروحة الدولة الحضارية الحديثة.
هذا يتطلب نشاطا منسقا واسعا. ويمكن الشروع باي جزء او كمية منه في اي وقت. وما لا يدرك كله لا يترك جله. وليس من الصحيح التحجج باعذار واهية لترك العمل التغييري الحضاري كله، بما يشبه الاستسلام للحالة الرثة التي يعاني منها المجتمع والدولة على مختلف المستويات.
واذا كان للمواطن المبتلى (بالجهل او الفقر) عذره، فإن النخبة الواعية المثقفة من ابناء المجتمع غير معذورة، حيث يقع العبء الاكبر من العمل التغييري على عاتقهم. وهذا ما قامت و تقوم به النخب الواعية في كل المجتمعات التي شهدت تحولات حضارية كبرى. فالتوعية التي تصل الى القطاعات المحرومة او الاقل وعيا هي الاداة الكبرى في التغيير الحضاري.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *