في سياق حديثي عن الدولة الحضارية الحديثة كثيرا ما يسالني القراء عن كيفية تأسيس هذه الدولة.
وعندي جواب على هذا السؤال. وجوابي ليس من بنات افكاري وانما استخلصته من تجارب قيام دول كثيرة بغض النظر عن انطباق وصف “الحضارية الحديثة” عليها. وتبدأ هذه التجارب على الاقل من قيام الثورة الفرنسية والاميركية والروسية والصينية والايرانية وغيرها. بل يمكن العثور على تجارب تاريخية قديمة مثل الدولة العباسية والدولة العثمانية. وحتى دولة الرسول محمد (ص) في المدينة. وكأننا هنا امام ظاهرة تاريخية او سياق ثابت مضطرد متكرر.
ومن خلال هذه التجارب يمكن استخلاص الكيفية التالية:
نعرف ان الدولة تتكون من الشعب بوصفه العنصر الاول، ثم يضاف اليه العناصر الاخرى مثل الارض وغيرها. ودلت التجارب الماضية على ان عملية اقامة الدولة تبدأ من الشعب.
واتفق مع صديقي الاستاذ جبار موسى الذي بيّن سياق التطور المؤدي الى قيام الدولة.
يبدأ الامر فكرةً لدى فرد واحد او عدة افراد متناثرين، يؤمنون بالتغيير وتأسيس دولة على طرازهم، ويحلمون بهذه الدولة. لينين في روسيا، وكيم ايل سونغ في كوريا الشمالية، وكاسترو في كوبا، وجورج واشنطن في اميركا، والامام الخميني في ايران، وماوتسي تونغ في الصين. وقبل ذلك علي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد بالنسبة للدولة العباسية، وعثمان بن ارطغرل بالنسبة للدولة العثمانية.
من المحتمل ان يفشل هذا الفرد او الافراد في تحقيق خطوة اخرى الى الامام وينساهم التاريخ والناس، ومن المحتمل ان ينجحوا في مشروعهم فيحفظ التاريخ لنا اسماءهم وقصص نجاحهم.
وتبدأ الخطوة في النجاح حين يتواضع هؤلاء الافراد بعضهم للبعض الاخر وتتلاقى افكارهم وطموحاتهم واحلامهم ويتحولون الى ما يسميه جبار موسى “جماعة التغيير”. وسوف تشهد هذه المرحلة حراكا فكريا وتدرجا في انتباه الجمهور الذي قد تتفاوت ردود افعاله ونوعية استجابته للفكرة بين مؤيد متحمس، او متلق ببرود، او مشكك يائس، او رافض معارض، وغير ذلك.
وفي الحالات التي نجحت، يحصل تفاعل كبير بين نخبة الافراد اصحاب الفكرة، وجمهور الناس، يؤدي الى الانتقال الى المرحلة الثالثة اذا لم تظهر معوقات اخرى، مثل كمية كبيرة من الجهل واليأس والمعارضة، او حكم دكتاتوري قمعي متسلط، او قوى خارجية (استعمارية غالبا) لا تريد للبلد المعني التقدم والتطور، او ربما ظروف موضوعية اخرى مثل الحالة الاقتصادية او الاجتماعية او مستوى الوعي السياسي العام. وهذه كلها عوامل سلبية تؤدي الى اجهاض الفكرة في منتصف الطريق.
اما اذا نجحت جماعة التغيير في الالتحام بالجمهور (الشعب او الامة) فكريا وشعوريا فان مشروع الدولة الحضارية الحديثة سوف ينتقل الى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة “مجتمع التغيير” و عندها يكون التغيير جاهزا.
في هذه المرحلة سيكون المجتمع، او مجتمع التغيير، قادرا على انجاز التغيير واقامة دولته، المعبرة عن مستوى الوعي التي وصل اليها من خلال الفترة السابقة.
سوف يتطلب انجاز عملية التغيير توفر عوامل وامكانيات مادية اخرى لا يمكن انجاز التغيير بدونها. ودلت التجارب الماضية على ان مسؤولية توفير هذه الامكانيات تقع بالدرجة الاولى على عاتق جماعة التغيير ومجتمع التغيير.
ومع ان اغلب التجارب الماضية سلكت الطريق الثوري لانجاز التغيير، فان هذا لا يمنع ان تتوفر طرق اخرى للتغيير بحسب البلد المعني. فقد يكون بامكان مجتمع التغيير اقامة دولته الحضارية الحديثة بصورة تدريجية من خلال الاليات السلمية والدستورية المتوفرة مثل الانتخابات. وبالتالي سوف يسعى مجتمع التغيير الى الاشتراك في الانتخابات بطريقة مدروسة تضمن له البناء التدريجي للدولة الحضارية الحديثة.