لم أزر بغداد من قبل، أنا كجنوبيٍّ فقير يصعب عليِّ أن أجيءَ سائحا مع أبي وأمي وأستطلع أماكنها السياحية بينما يعيش والداي شظف العيش، ولكنني الآن بعد الأربعين من العمر وارتفاع مستوى دخلي صار بإمكاني أن أسافر إلى العاصمة وأنفق مبلغا جيدا.
حلمي عن بغداد يبعد أكثر من ألف سنة، فقد قرأت عنها وتخيلتها من بنائها، مدينة السلام، فانبهرت بما كانت تمثله من حاضرة للعالم كله، وازدادت رهبتي حين عرفت أن الخليفة المنصور قد جلب حرفيين من العالم أجمع، ودعا أفضل المهندسين والبنائين، لتُبنى بطريقة محسوبة ومحترفة.
إذ كان المنصور إذا أراد أن يبتني مدينة يُأتى إليه بتراب من المكان فيعفنه فيصير عقارب وهوام، أي حيّات، فلا يعتبره، حتى أُتيَ بتراب بغداد، فعفنه، فصار صرارات، أي صراصر الليل، وعُرف أن نشوء تلك الحشرات من التراب يستوجب وجود بيضها فيه” ومن هنا يُدركُ أن التربة جيدة وصالحة للزراعة والخير، على عكس العقارب والحياة، فإن أرضها تكون صحراوية وغير طيبة للمسكن.
ولما ظهر للمنصور ما ظهر، جمع جيشه ووزرائه وعبر دجلة ونزل ديرا في بغداد وشاور أصحاب القرى بأنه عازم على ابتناء مدينة عظيمة (بغداد) فأشاروا له بأنّ دهقان قرية بغداد القديمة أفضل رأيا، والدهقان هو صاحب العقارات الكثيرة، فاستدعاه، فقال له الدهقان: إن قرية بغداد خير مكان، فأنت تكون بين البساتين والماء، ولن يجدب المكان، كما وأنك على النهر، تأتيك السفن من الغرب من الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشام وتجيئك الميرة من الهند والصين والبصرة وواسط في دجلة، كما وأنك بين نهرين، لا يصل إليك العدو إلا على جسر أو قنطرة، فيصعب على من يأتيك من الشرق والغرب غازيا، كما وأنك قريب من البر والجبل والبحر، ولما عزم المنصور على بناء بغداد سأل راهب الدير العتيق واسمه ديرمارفثيون عمّا يجده في كتبهم من الحدثان خاصا بما حول للدير، فقال له: إنما يبني ها هنا ملك يقال له أبو الدوانيق. فضحك المنصور في نفسه وقال: أنا أبو الدوانيق.
وكنت قبل أن آتي إلى بغداد زائرا متلهفا قرأت هذا الكلام عند العلامة الدكتور مصطفى جواد في كتابه أحاديث بغداد، وزاد لهفتي أنه حينما بدأ بناء بغداد المنصورُ سنة ١٤٥ هجرية أمر عماله في كل البلدان أن يُحمل إليه كل من يعرف شيئا عن البناء، فحضر أرض بغداد زهاء مئة ألف من تلك الأصناف، فضُرب اللبن وطبخ الآجر وأُحضر الخشب الساج والقصب وحُفرت الآبار وشُقت قناة تحمل الماء الصافي متدفقا إلى المدينة، وبُنيت مدينة السلام دائريا لتكون حاضرة العالم.
كما وعرفتُ أخبارا عن (بيت الحكمة) تلك المكتبة التي رُفدت بأعظم الكتب واحتوت على ترجمات كتب العالم المختلفة من الصين والهند والغرب، العالم كله يتطلع إليها، ويحلم العلماء بالحضور فيها. فبقي اسم مدينة السلام يُلحّن في أُذنيَّ وأنا أشرع بالسفر إليها.
بمخيلتي السلام والعمران والحضارة والتمدن والرقي، وصلتُ إليها في كراج العلاوي حاملا تاريخ الجنوب، سومر وبابل وآشور وحمورابي وحضارة الأهوار وعراقة تاريخ العالم، غير أن همومي فاضت أكثر من الهور وعبرت سهول الفرات الأوسط وجفّت أهوارنا اليافعة، وماتت الجواميس، فقلت في نفسي إن في مدينة السلام سلاما لروحي، علّني أستأنس هناك، ولكن ما الذي تبقى من مدينة السلام؟!
من العلاوي شممت رائحة الموت والوجع وهو يعتلي وجوه الباعة الجوالة والشوارع الخائفة، وصرّت في أذني أبواق السيارات التي تجسد تمثيلا لفوضى عارمة، فالتقطتُ أنفاسي وعبرت إلى وسط بغداد، ورحت أبحث عن الهدوء في شارع المتنبي، فوصلت ضفة نهر دجلة، فلم تتغير وجوه الناس، مازال التعب والأرق والوجع يشكل ملامح وجوههم، لكنني لم أيأس، فتمشيت قليلا إلى جهة سوق السراي وعبرت قليلا وإذا بمقهى الشابندر الذي حلمت أن أجلس فيه ساعة، ودخلت فقابلتني صورٌ لشخصيات تراثية وسياسية وتاريخية أسهمت بتغيير واقع الوطن العربي وليس العراق فحسب، ودارت عيني متتبعة الصور حتى وصلت إلى صاحب المقهى، فإذا به يضع صور أبنائه وإخوته الشهداء بانفجار حصد عشرات الأرواح في هذا المكان نفسه، وبدا الألم على تشققات كفيه وعينيه اللتين احمرّتا من رؤية الدماء.
فاتجهت إلى المنصور التي ماتزال تحتفظ بالبهجة، ولم أجد غير بغداد التي سمعتُ من قبل، العمران والرقيّ والتحضر، ورغم هذا، أحس بشيء ليس طبيعيا، فالتذمر لا يفارق ألسِنة الناس، فتوقعت أو حاولت أن أصدق نفسي، وأقول هذه هي بغداد.
وثم رحت إلى جامع براثا على حافة الأعظمية، فأخطات الطريق حتى دخلت الأعظمية، فانتابني الخوف، إذ أخبار عام ٢٠٠٧م لم تزل تعيش معي، وخفتُ أن يطير رأسي في زقاق ضيق، وعدتُ حتى رأيت جامع براثا متهالكا متعبا، فيممت وجهتي إلى الكاظمية، فألفيتُ في عتبة الكاظميين الناس التي تحمل همومها مثلي من كل مدن العراق، داعيةً متضرعة مهمومة، ولكن الأمل يختلط مع الهواء وأشم رائحة السكينة في النفوس، فاستبشرتُ خيرا، وبقيَ حلم مدينة السلام يراودني يقظةً فاتجهت إلى الكرادة وشممت عطر شطآن دجلة، وأحسست بما أحسّ به المنصور وهو يبني بغداد، ورايت تعرجات ومنحنيات النهر وشهدت في انسياب ماء دجلة الرائع عظمة العراق وتذكرت الجواهري والمتنبي وحاضرة الأمم.
فاختلطت مشاعر الزهو والعزّة والفخر مع الخوف والانكسار والخنوع، ولكنني أعرف وأدرك تماما أن هذه المدينة التي تمثل بلدا تشبّع بتاريخ مشرف وحضارة ومجد وتقدم، لن تُمحيه عدّة سنوات من الخراب والدمار، وأن هذا البلد لن يموت مهما مرض، وأن الكتب تنبئ كل من ييأس أن العراق ينهض في أعتى الظروف وأمرّ الازمان ليكون حاضرة مدنية حضارية سياسية علمية تاريخية أدبية.
فحملت حقيبتي وعدتُ إلى العلاوي، لأسمع صوت السوّاق يصيحون بصرة.. عمارة.. ناصرية.. نجف.. حلة.. سماوة.. فتساءلتُ عن قطار الليل وحَمَدْ، وأدركت كم نحن متأخرون، فلماذا لا تجود قطارات سريعة إلى الجنوب؟ ربما بغداد لا تحبُّ أن نهرب منها مسرعين، أو يغادرها الوافدون إلّا محلقين بالطائرة إلى السماء، أو ذاهبين إلى السماء أيضا ولكن في توابيت، ولن تُزار مرتين.