حين تبلغ السبعين من العمر وتتجاوزها، ليس من الضروري ان تكون منحازا لهذا الطرف او ذاك، او مؤيدا لهذا الحزب او ذاك، او معارضا لاي منهما. ففي هذا العمر تكون قد خضت الكثير من التجارب الحياتية والفكرية والسياسية، وتعرضت لكثير من الامتحانات والاختبارات، وحققت عددا معينا من الانجازات والنجاحات، وارتكبت عددا معينا من الاخطاء والاخفاقات، ما يجعلك قادرا بدرجة ما على ان تكون على الحياد، وان تجلس على مسافة ابعد من المشهد بحيث يتاح لك النظر الى كل او معظم زواياه. عند ذاك تستطيع، وينبغي لك، ان تعطي رأيك بموضوعية، وانت تستهدف ان تضع خبرتك ومعلوماتك في خدمة الخير العام، تعرضها على الناس، دون ان تطلب من الناس شيئا، اجرا او شكرا، اكثر من ان يقوموا لله مثنى وفرادى ويتفكروا في القول ويتبعوا احسنه، ان شاءوا.
قضيت معظم سني شبابي عضوا فاعلا في حزب الدعوة الاسلامية، منذ عام ١٩٦٦ الى عام ١٩٩٠. وقد كانت تلك سنة مفصلية، سبقها تولي غورباتشوف زعامة الاتحاد السوفييتي وطرحه مشروع الاصلاح والانفتاح (بيروسترويكا)، ثم تحلل الاتحاد السوفييتي نفسه، وسقط جدار برلين وانهيار الكتلة الشيوعية، وانتهت الحرب الباردة الحدث الذي اغرى فوكوياما باعلان نهاية التاريخ، وانتهت الحرب العراقية الايرانية بمعادلة “لا نصر لايران ولا هزيمة لصدام”، وغزو صدام للكويت، وانفتاحي على الفكر الديمقراطي منذ عام ١٩٨٥ وملازمتي للفقهاء الاجلاء السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد بحر العلوم، وقبلهم دراستي المعمقة لفكر الشهيدين السيدين محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر، ومعهما المطالعة المستمرة لامهات الكتب الفلسفية والسياسية بدءاً من كتابي الجمهورية لافلاطون والسياسة لارسطو، وليس انتهاء باخرها انذاك كتاب “بيروسترويكا” المار ذكره. كل ذلك أذِنَ بمرحلة جديدة في حياتي الفكرية والسياسية. اصبحت ارى ان الديمقراطية لا تخالف الإسلام وانه من الممكن تبيئتها في مجتمع اسلامي، وان “الدولة الاسلامية” مشروع مؤجل تبعا لقول السيد محمد حسين فضل الله الذي طرح مشروع “دولة الانسان”، وقد تطورت عندي فكرة دولة الانسان ونمت حتى تبلورت على شكل اطروحة الدولة الحضارية الحديثة التي طرحتها بعد ان تحررت من الالتزام الوظيفي بصفتي رئيسا لشبكة الاعلام العراقي، وهي احدى مؤسسات الدولة العراقية، ويتمتع رئيسها بدرجة وزير، وهذا قيد على المفكر وليس امتيازا. والدولة الحضارية الحديثة لا تعادي الاسلام ولا العلمانية، لكنها لا تتبعهما حرفيا وان كان يمكن ان تكون حضارية اسلامية او حضارية علمانية حسب خيارات المجتمع، وذلك ان الفكرة المركزية في هذه الاطروحة تقوم على منظومة قيم عليا تزعم انها قادرة على تفعيل عناصر المركب الحضاري الخمسة (الانسان، الطبيعة، الزمن، العلم، العمل) على افضل وجه و على تعظيم انتاجية المجتمع الفكرية والمادية، وتحقيق العدالة في التوزيع في مختلف المجالات.
اذا استوعب القاريء العزيز ما تقدم وتعقّله، فان هذا سوف يمكنني من القول انني في هذه المرحلة المتأخرة من عمري لم اعد صالحا للتوصيف بالعناوين الدارجة الان في المجتمع العراقي كوصف الصدري او الاطاري او ما شابه ذلك. انما انا انسان، بهذه الصفة العامة غير المتحيزة، انتمي الى العراق والانسان والحضارة الانسانية المشتركة، ولدى معتقداتي الخاصة التي لا اطرحها للجمهور عادة، واسعى الى تقديم نتائج ما تراكم عندي من خبرة معرفية وعملية لمن يقرأ ما اكتب او يسمع ما اتحدث، دون ان التزم مسبقا باي عنوان من العناوين الحزبية والسياسية المتداولة. وللقارىء الحرية المطلقة في ان يتقبل ما اطرح، او يرفضه، في اطار علاقة متبادلة بيني وبينه من الاحترام المتبادل والمحبة في الله والانسانية والوطن.