لنضع جانبا هالة القداسة التي يتمتع بها ويستحقها الامام الحسين والائمة الاخرون من احفاده جانبا، لأغراض فكرة هذا المقال فقط، ونتحدث عن فقرة اساسية في احداث السبعة والثمانين سنة اللاحقة، بعد مقتل الامام الحسين عام ٦١ هجرية، وهي الفترة التي تولى فيها الامامة ثلاثة رجال هم الامام السجاد والامام الباقر والامام الصادق الذي توفي سنة ١٤٨ هجرية.
كان استشهاد الامام الحسين في العاشر من محرم، مظهرا ماديا لهزيمة عسكرية للثورة التي قادها ضد الدولة الاموية. كان هدف الثورة، كما ورد في كلام الامام الحسين، هو الاصلاح، وبملاحظة ظروف الثورة نفهم ان ذلك الاصلاح كان يستهدف الجانب السياسي في الدولة والمجتمع، اي الخلافة، التي انحرفت عن الخط السليم. وهذا ما جسده الامام بقوله:”ومثلي لا يبايع مثله”. اي ان الشروط الصحيحة الواجب توفرها في الخليفة لم تكن متوفرة في شخص المرشح للخلافة انذاك يزيد بن معاوية.
لنقل ان الثورة انتكست يوم العاشر من محرم بالمعايير العسكرية البحتة. فقد قتل قائد الثورة، وذبح رجالها، وسبيت نساؤها، وتم الامر ليزيد، ودخل الخط الذي يمثله الحسين فترة قاسية من الاضطهاد والتشريد والمراقبة والمضايقة من قبل السلطات الحاكمة.
لكن هذه الظروف القاسية لم تمنع الائمة الثلاثة اللاحقين من الاستمرار في مواجهة الواقع السيء باساليب وطرق مختلفة. كان الائمة الثلاثة من كبار مثقفي الامة الاسلامية انذاك، بل كانوا اكبرهم على الاطلاق. فقد مثلوا مدرسة فكرية-فقهية تخرج منها المئات من المفكرين والمثقفين والعلماء والفقهاء.
ويقول الظاهر من التاريخ انهم اعتزلوا النشاط السياسي بمعنى المواجهة المباشرة للسلطة بهدف اسقاطها، لكنهم توجهوا الى نوع مغاير من النشاط، هو النشاط الفكري الذي كان يستهدف بناء وعي مغاير في اوساط الامة سوف يلتقي في احدى مراحل التاريخ بنشاط سياسي يستهدف اسقاط الدولة الاموية.
وهنا نلاحظ ان النشاط الفكري للائمة الثلاثة تزامن مع بدء النشاط السياسي السري للدعوة العباسية بحدود سنة ١٠٠ هجرية على يد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وابنه إبراهيم والتي استطاعت القضاء على الدولة الاموية عام ١٣٢ هجرية.
وكان شعار الدعوة “البيعة للرضا من ال محمد”، ما يشي بان الاجواء السياسية العامة كانت مواكبة للاجواء الفكرية التي كان تصنعها مدرسة الائمة الثلاثة بعد الامام الحسين. وهذه هي نقطة الالتقاء الموضوعي التي اشرت اليها انفا.
والدرس المستخلص من هذا التطور في مسار ثورة الامام الحسين والنشاط الفكري اللاحق لاحفاده، هو ان فشل الثورة عسكريا وانحسارها سياسيا لا يعني ولا يحتم انكفاء مثقفيها فكريا.
وهذا هو بالضبط ما ينطبق على حالتنا العراقية الان. فقد وصل الحال الى الدرك الاسفل من البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولم تنجح الطبقة السياسية ومعها المجتمع في استثمار اللحظة التاريخية التي تلت اسقاط النظام الصدامي من قبل الولايات المتحدة الاميركية. ولذلك اسباب لستُ بصددها الان، لكن ما انا بصدده ان الانحطاط العام لا يحتم انكفاء مثقفي المجتمع العراقي عن اداء دور مازال مفقودا لانتشال المجتمع والدولة من وضعهما البائس الراهن. وهذا الدور هو بناء وعي سياسي-فكري عميق مغاير يكون اساسا لبناء جماعة بشرية تحمل شعارا بديلا كذلك الذي رفعته الدعوة العباسية، ويكون الارضية التي سينطلق منها نشاط سياسي قادر على التغيير والاصلاح واعادة البناء. ان مشكلة المثقف هنا هي الانكفاء الفكري، بعد ان تحقق الانحسار السياسي، وهذا ما لا ينبغي ان يحصل، لان حصوله يعني انطفاء الشمعة التي تنير الطريق نحو الاصلاح الحقيقي.