في قطاع 14 من مدينة الثورة( الصدرحاليا ) , تغدو المراسيم الحسينية طقوسا مدهشة لطفل يكتشف في دبيبه الاول صورة الموت الجماعي عبر مشاهد التشابيه , مرافقا لاب يترنم بصوته الاخاذ بقصائد استذكار بالغة الوجع , انه مله جاسم (ابي) , القارئ الحسيني ذات التوجهات اليسارية القادم من ضيم الحياة من قرى الكوت في مطلع السبعينات , كنت اخر العنقود مبهورا بغزارة دموعه لكنه يختم نواعيه بوصايا اقرب للنصيحة والتمسك بفكرة الحسين وعدالته , مدرار الدموع يستنطق فاجعة الطف وتهتز اكتافه بنوبة بكاء هستيري تصاحب المقتل الحسيني , ويهرب الطفل بعيدا من وجل اللحظة !! يكثف الاب مله جاسم المتنور من حواراته مع ابنائه الكبار المنخرطين في انتماتئهم الشيوعية , يستهجن الجبهة الوطنية !! وترتفع نبرة النقاش الحاد بين اب معتدل التدين وابناء يرفعون لواء اليسار منهجا في الحياة !! هو يقلب كتاب اليمين و اليسار في الاسلام لاحمد الصالح ويعجب به !! يتبنى نهج تقارب فكرة العدالة والثورة الحسينية , يدندن مع عائلته بقصائد جديدة يختارها بعناية تتوافق مع رفضه تولي البعث زمام الحكم !! يباغته الموت في مطلع الثمانينات معترضا على حال البلاد ويتسمر الطفل امام وجوده الجديد !!! ترافق مسيرة حياته المبعثرة ترانيم حزن نبيل وقصائد العدالة الحسينية , ويدفعه اليتم المبكر للانبهار بتلك البكائيات الحسينة الذاعة الصيت اذبان شلال شهداء الحرب الايرانية في سنوات الجمر والحماقات الصدامية !! لساعات طوال يردد مع الناعيي في شريط تسجيل اشتهر في مطلع الثمانييات منسجما مع مشهد الرحيل المفجع لشباب سيقوا لحرب مثقلة بالاسئلة والحيرة ( جسام يا سلوتي ,, رايح , رايح من عيوني ) احتلت هذه المناقب حيزا كبيرا في نفوس جيلنا , فكانت بحق التماعة بطولة جمالية عند الصديق الفنان المخرج المسرحي كريم رشيد الذي كان استاذا في كلية الفنون الجميلة جامعة بابل , وهو المغامر الذي اقتحم المسكوت عنه وجازف بالوصول الى الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ليقنعه باخراج مسرحيته الشعرية ( الحر الرياحي ) , مستنطقا الوجع العراقي تاريخيا ومجتمعيا في مشاهد رمزية بالغة الدقة, مشفرة بالرفض لسلطة الغباء والوحشية التي تحارب قيم العدالة , متخذا من شخصيات المسرحية وحوراتها العميقة اقنعة توظيفية لاستهجان الظلم , ومتخذا من الحر الرياحي لسان حال بعض العراقيين الذين انساقوا في غفلة من عشق السلطة والملذات , ليكون اداة للقمع , لكنه اعاد مخاطبة الذات والضمير , مسترشدا بحكم الحسين المناضل الثوري المتجرد من الغيات نحو الغاية الاسمى الا وهي العدالة ,,, المسرحية التي عرضت في عام 1994 , على المسرح الوطني ليوم واحد وسط دهشة الحضور ضمن مهرجان مسرحي اثارت تعاطف اني الهب الجمهور في لحظات تاريخية في حفرت في الوجدان معنى مقارعة الغباء والقسوة بالجمال واستقدام معاني الشجاعة المبدئية ,, حينها اجهشت بالبكاء واهتزت اكتافي بنوبة هستيرية يرافقها تصفيق حار لفرق العمل القادم من جامعة بابل !! الكل كان يود ان يهمس في اذن المخرج المشاكس صاحب الاعمال الممنوعة سلفا , ما اروعك فقد كنت صريحا حد الجسارة لقد غادرت منطقة البكائيات المعتادة الى حكمة استنطاق الامل في التغير !! وقد حضرت حينها وصيا المقربين ,,, ارحل اهرب !!!! فكانت هذه المسرحية سببا في مضايقة كريم رشيد واجباره على الرحيل الى السويد التي تألق فيها واصبح من اهم المخرجين المغتربين ,,, وحينما عاد بعد التغير، توجهت اليه بعض الاحزاب لاعادة انتاج المسرحية , فرفض !!! بقوله ان عمله كان ثوريا صادما في توقيت كاد الصمت فيه ان يكون العلامة الفارقة في المشهد الثقافي !! اما اليوم فلا احب ان اقدمه بالطريقة البكائية التي يستند اليها الوعي الشعبوي .
تحية لمن رسخ في نفوسنا قيم الحسين العدالوية المناهضة لسلطات القسوة والتوحش , تحية في هذا اليوم لمن استعاد صور الراحلين من مطالبي الحقوق ومن رفعوا شعار العراق منددين بقسوة الذين ارتدوا ثوب الحسين تزلفا !!