هل للذاكرة حقوق التفويض ، أن تخرق كل ضغوط الحياة اليومية التقليدية لتأخذنا في اسفار استرجاعية الى الماضي الذي لايمكن أن نستدل منه سوى على شظايا معرفة كانت في يوم من الايام ذات حضور طاغٍ لكن الزمن غيّبها فتسربت الى الاعماق ضمن رحلة محفوفة بالمزيد من الضياعات .

المتداول علمياّ ، أننا حين نبحر، الشواطئ هي التي تأتي الينا وليس ان نلجأ اليها وفق مفهوم النظرية النسبية التي طوّرها عالم الفيزياء الالماني ،السويسري والاميركي الجنسية ألْبرتْ أينشتاين فهو يرى ان ( مجال سرعة الزمن يتوقف على سرعة الأجسام وقوة الجاذبية )

على حين غرة تماثلت امامي سريعاً صورة السيدة العراقية حليوه بعد أكثر من خمس وستين سنة مَضت على اخر مشاهدتي لها ، سيدة في الخمسين من العمر ، اخذ عقلها العشق القاتل في احد الأرياف النائية،هكذا تقول الرواية الوحيدة التي تناولت سيرتها . تنصل اهلها عن تزويجها الى فلاّحٍ تعزه الحقول لشدة اهتمامه بها .

كان كل مابينه وبين حليوه نظرات مكتومة وابتسامات تختفي عنوةً حين تزدحم الطرق بالمارة ، تقدم الرجل للاقتران بها مستخدماً قائمة الوسائل المشروعة، النساء اولاً في زيارة تفقدية لعائلتها ، بعدها بأيام ( مشيّه) مزدحمة (بالعگل) ،فحصلت الموافقة وتعشبت هلاهل النساء وبعد ساعات من الحدث السعيد اطاح سيف (النهوة) بالمشروع ، الناهي ابن عمًها مقسماً بأغلظ الايمان ، ان الزواج لن يتم الا على قطع رقبته ، عندها فقط وامام هذا الاعتراض الحاسم ظلماً تَصابرَالرجل الخاطب وحمد الله على كل شيء ، ركب نفسه مغادراً الى جهة مجهولة لكي يقطع الطريق على اية شماتةٍ بينما اصيبت حليوه بالكد النفسي المتفاقم ،واخذ مشروع العنوسة التآمري يسري في اوصالها . بدأت تشيخ مبكراً ثم غلبها جنون مسالم تحكمه الوداعة وتوزيع الابتسامات الخجولة والدوران على البيوت ، اما السؤال الذي سيطر على الذاكرة ولم اجدْ له اجابةً ، من اية قرية جاءت حليوه ، ولماذا حطت رحالها في مدينة الناصرية .كانت الماركة المسجلة بأسمها ، جمال عتيق يتلبد به خليط من الفزع والتوهان ، جولات يومية في الأزقة الشعبية للمدينة ،تٌهمهمْ ، تٌطلق ضحكةً خجولة بين الحين والاخر في اطلالة مسرحية يحكمها مشهد التساؤل واستطلاع الافق وضياع النية، تٌطرقْ الابوابَ ، تتسول ، تكتفيّ بالملابسِ والطعامِ فحسبْ ، وبعد أن تكون قد أتمت مشوار النهار تختار عتبةً خارجيةً لجامعِ فتجلس من اجل ان تستريح و تأخذ كفايتها من الطعام الذي جمعته لتوزع المتبقي على قطط اعتادت ان تتحوطها ، ولم يسجلْ لها انها منحت الكلابَ السائبةَ فرصةَ هذه الولائم رغم كثرة توددها، مع اقتراب المغيب ، تختار زاويةً من احد الشوارع لترتدي الملابس التي جمعتها ،الواحد فوق الاخر، على ملابسها التي ترتديها بعد عملية تصنيف ما يعجبها وتكوّر البقية وتهملها في الشارع ثم تنسحب عصراً من هذه المهمة كعاملٍ مكسور أذّله التعب . المأوى كوخ مهجور على الطرف الشمالي الشرقي من الناصرية ، ليس بعيداً من مدخل الطريق المؤدي الى مدينة الشطرة ، تغلق عليها بابا ً خشبياً متهالكاً أستسلاماً لليلٍ تحكمه نوبات نحيب يعرف توقيته سكان الاكواخ القريبة من كوخها . في إحدى الليالي افتقد المجارون سماع وصلة النحيب ، تكرر الصمت في الليلة الثانية ، ومع اطلالة الشمس اخترقت الكوخ سيدة كانت تتفقدها بين الحين والاخر لتجدها قد فارقت الحياة ،عندها فقط تحاشم شباب الاكواخ القريبة ونظموا لها جنازةً على وقع أهزوجتين يعصفان مزيجاً من المرارة والمفارقةِ، (يالناهي العايل ابشر بيهَ ) . ( يحليوه الدنيه أشظل بيهَ ) .

مثواها الاخير كان في مقبرة (سيد دخيل) لماذا في هذه المقبرة البعيدة بمسافة تزيد على عشرة كيلومترات عن الناصرية ، مَنْ اقترح ذلك ، هل لتلك المنطقة علاقة بانحدارها الريفي ، لم يستطع أحد تعليل الاختيار ، اما الارث الذي تركته حليوه فقد كان أكواماً من الاسمال …

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *