المعروف ان العائد من السفر يكون مزاجه رائقا وحاله سعيدا وأعصابه هادئة وسلوكه مسترخيا ، ففي السفر اكتشاف لأمكنة جديدة ، والتزود بثقافات مختلفة والتعرف لأناس مغايرين ، وكل هذا يبعث السعادة في النفس ، بالرغم من متاعب السفر وقلقه ومحاذيره ، لكن مشاعر السعادة هذه سرعان ما تتلاشى بمجرد أن تحط أقدامك بمطار بغداد ، وينتابك الاحباط والانكسار وانت ترى أحياء العاصمة وقد تهالكت أبنيتها وتخسّفت شوارعها واعوجت أسيجتها وتصحرت مقترباتها وتكدست نفاياتها على طرقها الرئيسة.
ان أول ما يتبادر لذهن العراقيين أثناء سفرهم اجراء عمليات مقارنة لصورة بلادهم وتلك التي يحطون الرحال فيها ، ليستنتجوا في غضون لحظات ان العالم يمضي الى الأمام سريعا ، وبالسرعة نفسها تتراجع بلادهم الى الخلف ، مع ان غالبية سفرهم لدول مجاورة وليس لدول متقدمة ، أي لدول سبق ان كانت مثار تندرنا ومحط اشفاقنا .
لا يمكنني بالمقارنة أن أصف حال بغداد سوى ببيت تهدمت جدرانه وتساقطت سقوفه وتناثرت محتوياته بعشوائية بالغة ، فاذا كان هذه هو الوصف الذي ينطبق على العاصمة ، فكيف هي حال مدننا الأخرى ؟، انها بائسة بالمعنى الدقيق للكلمة ، فكم هو مؤلم قول تلك الصبية الصغيرة التي عبرت عن خجلها من أن يرى الطيارون الأجانب عاصمتنا بكلمتها العامية ( شگد عيب ) .
أظن ان المعنيين بإعمار عاصمتنا ما عادوا يرون بؤسها ، فقد تكيفوا معه ، بل قد يرون في الأعمال التي يقومون بها انجازا يستحقون عليه الثناء ، مع ان ما يقومون به تافه ولا قيمة له ، وأستغرب ممن يفشل في عمله أن يبقى في موقعه بصرف النظر عما اذا كانت أسباب الفشل ترتبط بقدراته ومهاراته ام لأسباب خارجة عن ارادته .
فاذا كان ما تحقق خلال العقدين الماضيين تافه ولا يستحق الذكر ماديا او معنويا ، فأن ما بعد التفاهة هو التفسير الأرجح لإصرار الطبقة السياسية وما يرتبط بها من تنفيذين على البقاء في المواقع التي يشغلونها . وصبرنا ، وطال صبرنا ، وما عاد ينفع بالتافهين عتب ، ولا يرق لعيشنا وسط النفايات قلب .
لقد انتهينا الى حقيقة مفادها : ان التافهين لا يشغلهم سوى المال والتربع على صدورنا ، كما تربع من قبلهم ، وبقدرة قادر تحررنا من أجسادهم الضخمة لنجد أنفسنا في مستنقع خانق آخر لا يقل وطأة عما سبقه ، فهل قدرنا أن نكون ضحايا لمغامرين وتافهين لا يفقهون من امور ادارة الدولة شيئا ؟.
ربما يهزأ القراء من قولي : اني أشك في ولاء غالبية الطبقة السياسية للوطن ، وسيعلق بعضهم بأن عدم الولاء صار حقيقة ناصعة لا يختلف عليها اثنان ، وقد تجسدت بمظاهر التخريب التي تطوقنا من الجهات الأربع . لكن الأوطان لا تبنى بغير الولاء النقي وروح الانتماء لهذا الشعب المظلوم على مدى تاريخه .
لا ارتقاء بلا شعور بالانتماء ، الاخلاص في العمل وجودته مرتبط بحب الوطن ، وينتعش هذا الحب الراسخ في الوجدان أصلا عندما يرى الناس نماذج وطنية قابلة للاحتذاء ، وبغيره يتحول الوطن الى غابة ، والمدن الى خرائب ، والحياة الى جحيم ، وبدأت ملامح هذه الأشياء تطفو على السطح ، ويا ويلنا ان لم نتدارك الأمر ، وكيف نتداركه اذا كانت الطبقة السياسية تعمل ضد البلد والشعب بحسب وصف بلاسخارت ممثلة الامم المتحدة في ايجازها لمجلس الأمن ، ولا أدري ما ستقوله لو طُلب منها ايجاز لحال بلادنا الخدمي ؟، انهم يتجاوزون مرحلة التفاهة الى ما بعدها ، وعليهم تحمل العواقب ، وادراك انه مهما بلغت الأسس التي بنوها رسوخا ، فان ارادة الشعوب قادرة على اقتلاعها في لمح البصر وبما لا يتوقعون ، وفي ما مضى دروس عليهم تأملها مليا ، مع ان قلوب العراقيين مفتوحة لمن يريد تبوأ موقع أثير فيها ، او يبني قصرا منيفا في ذاكرتهم ، لكن لابد من وضع الوطن والشعب نصب عينيه ، وان يُعيد لمنائر بغداد وهجها.