التقيته صدفة فسألته : أين يعمل ولدك الآن ؟ ، فأجابني بوجوم : في السجن ، ما دعاني للرد سريعا : كيف بالسجن ؟ فالفتى مثقف ، وتمكن من انهاء دراسته الجامعية بتفوق ، ومعروف بأخلاقه الرفيعة ، ومسالم بطبعه ، فلم تتسلل اليه الروح العدوانية كما تسللت لغيره ، بالرغم من التراكمات المريرة لضغوط حياتنا الشائكة ، ما أشاع الاحباط وفقدان الأمل بالمستقبل لدى الكثيرين من أمثاله ، قابل الأب دهشتي بضحكة مشوبة بالحزن : لا يذهب بالك بعيدا ، عمله يشبه السجن الى حد كبير ، بائع في ( مول ) يبدأ دوامه من الساعة العاشرة صباحا وحتى الحادية عشرة مساء بمعدل (12) ساعة يوميا ، وليس لديه من الوقت سوى للنوم واستبدال الملابس ، وبأجر شهري قدره (600) الف دينار من دون التمتع باستراحة بما في ذلك أيام الجمعة .
وبابتسامة مماثلة قلت له : لا تبتئس فابنتي مثل ولدك في السجن ايضا ، فمنذ تخرجها من الجامعة ، وهي حبيسة المنزل ، وحالتها النفسية بائسة ، لم نجد لها فرصة عمل مناسبة ، فثقافتنا حساسة ومازالت لم ترق لمستوى يتفهم فيه المجتمع عمل الفتيات في القطاع الخاص بعد أن أقفل القطاع العام أبوابه .
دعونا نناقش راتب الفتى الذي لا يقارن سوى بأدنى راتب يتقاضاه موظفون غير ماهرين في القطاع الحكومي وبساعات عمل محددة ، ومثله لا يكفي للإيفاء بمتطلبات العائلة ، اما اذا كانت ممن لا تملك منزلا فأمرها عسير جدا ، فبدلات الايجار تستنزف الراتب كله ان لم يكن أكثر ، فضلا عن الخضوع لأمزجة أصحاب العمل الذين غالبا ما يلوحون بالاستغناء عن خدمات العاملين ، فيرضخون للأوامر وان كانت تنال من كرامتهم .
تقودني هذه المشكلة للقول : ان غياب الضوابط التي تحددها الدولة تدفع القطاع الخاص للعمل على هواه ، ومن أهوائه انه بخيل ، ويسعى للحصول على أطول مدة عمل مقابل أقل أجر ، المال محرك أساس لهذا القطاع ، ونادرا ما يكون للقيم الانسانية حضور ، فنسبة بطالة الشباب المرتفعة وسعت من خيارات أصحاب العمل ، والا بماذا نفسر أجر شهري مقداره (150) الف دينار لمعلمة في مدرسة أهلية ، او (750) الف دينار لحامل شهادة الماجستير في الجامعات الأهلية ، فهل من اذلال للإنسان أكثر من هذا ؟، ان قبول الناس بالأمر الواقع لا يعنى رضاها عنه ، بل مجبرة بسبب ضيق الخيارات ، بانكسار وألم ينظر الشباب للحكومة لعلها تحررهم من افتراس المتوحشين ، انها عبودية بوجه آخر.
يشير واقع القطاع الخاص على ضيقه ان حقوق العاملين فيه خارج الاهتمام ، والمستقبل فيه غير واضح ، والعمل غير آمن ، ما يدعو الشباب للمطالبة بالتعيين في القطاع العام والاستقتال من أجله ، لكن الدولة غير قادرة على تلبيته للجميع ، فيتسع التذمر وتزداد النقمة على الحكومات .
لو كان القطاع الخاص محكوما بقوانين وضوابط وقدرة على المراقبة كما يجري في العالم لتبدد قلق الشباب ، ولو فُعل بطريقة صحيحة لتوفرت فرص عمل تشبع حاجتنا ، ولقدم امتيازات مغرية لجذب الأيدي العاملة ، ولفضله الشباب على القطاع العام ، لذلك يفترض أن يحكم العمل فيه بعقود تحدد بنودها الجهات المعنية كالأجور وساعات العمل وغيرهما ، ومحاسبة منتهكيها عمالا كانوا او أصحاب العمل .
يتزامن كلامي مع اعتزام مجلس النواب مناقشة مشروع قانون الضمان الاجتماعي ، ولكن قبل ذلك يجب التداول فيه مع أصحاب الشركات والنقابات العمالية ، فلديهم خبرة يمكن أن تثري القانون وتسد ثغراته ، بما يحقق توازنا بين مصالح العمال وأصحاب العمل ، والتأمل في تجربتنا السابقة التي أضاعت حقوق الناس وأسهمت بهجرة الكثير من أصحاب الشركات لاستثمار أموالهم في دول الجوار . بالتأكيد ليس جميع عمال القطاع الخاص يعملون في شركات مسجلة لدى الدولة ، بل نسبة كبيرة منهم يعملون خارجها ، ما يقتضي السيطرة على هذا النوع من العمل ، وأتمنى إعادة تجربة مكاتب التشغيل التي طواها النسيان .