تستيقظ الصور المؤلمة و المشاهد المفجعة في الذاكرة , و تراها حاضرة بين النواظر كي تثير المشاعر كلما تشابهت الوقائع و السلوكيات العدوانية التي يمارسها الافراد و السلطات . و لتوكيد ما ذكرنا في مقال (لئلا تعود رهبة الجرس) المنشور في الزمان . فقد قفز من الذاكرة مشهد تلك المرأة السماوية.
ففي عام 1978 شاهدت أمرأة معلقة تحت مركبة صالون , بعد أن دعسها السائق في شارع مظلم , و ظلت هكذا دون علمه فقد كان منتشياً بعد أن كرع كؤوس الخمر في نادي بحيرة الاسماك الذي يقع شمالي السماوة حينذاك.
إذ توقفت المركبة إثر مرور القطار , لأن السكة كانت تقسم الصوب الكبير في السماوة الى نصفين , مما يضطر أصحاب المركبات الى التوقف ، وأثار جسد المرأة الممزق مشاعر و ألم الناس الذين تجمهروا.
مشهد حاضر
يومها لم أتمكن من تناول الاكل و انتابتني كوابيس شتى في المنام رافقتني لعدة ليالٍ, و مازال ذلك المشهد حاضراً في الذاكرة رغم عقود من السنين .
و أثناء أداء الخدمة العسكرية الالزامية بعد أعوام إبان الحرب العراقية الايرانية , و تحديداً في شرق البصرة و بفعل تكرار مشاهد القتل و الدم و كل الخراب الذي جلبته الحرب أصبحت آثارها و صورها ترافقنا في كل حين , بل نشاهدها و نحن نأكل و نمارس حياتنا الروتينية . و تؤكد الدكتورة ربى ناصر الشعراني أن طبيب أعصاب العنف يعتقد أن سيناريوهات العنف قد تؤثر فينا من خلال تعديل أنظمتنا العصبية . مشاهد العنف قد تصبح شكلاً من أشكال التكيف . وهذا يعني أنها قد تخلق مسارات معينة و دوائر في الدماغ و تؤثر في كيميائها العصبية .و لأن بيئة العنف غدت تحاصر المواطن العراقي سواء في وسائل الاعلام و التواصل الاجتماعي و الاعلامي او الواقع بأشكال مختلفة متعددة فأن ذلك يؤدي الى سلوك معادي إزاء الاسرة و المجتمع . التي أخذت بالانتشار في المدن و الارياف لأسباب تافهة تكشف عن تفاقم النزعة العدوانية , و توكيد ميول الانسان الى العنف و سقوط الاقنعة الزائفة و طغيان حيونة الانسان, و أن كان ذلك إتهاماً باطلاً للحيوانات لأنها لا تبلغ ما يبلغه الانسان من القسوة و البشاعة حين تتوفر له الفرصة بظلم الاخرين و تتعارض مع مصالحة .
(و ليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ / و يأكل بعضنا بعضاً عياناً).
و نشير الى بعض الحوادث التي حصلت خلال الاسابيع الماضية مثالاً :
– قيام أحد الشباب بزرع عبوة ناسفة في بيت أقربائه لعدم موافقتهم على زواجه من ابنتهم .
– بسبب خلاف عشائري انفجار رمانه في ناحية أور بالناصرية على منزل الطفل حيدر خالد أدت الى وفاته .
– قيام أمرأة في النجف بقتل زوجها بواسطة (بلوكة).
– مشادة كلامية بين شقـيقين في حي السكك بقضاء الحسينية شمالي بغداد تحول الى مــــعركة بالقــــــنابل أدت الى مقــــتل الشـــــقيقين وأمـــهم بتاريخ 10/10/ 2022.وثمة سؤال ما برح يطرق نوافذ العقل , هل تصلبت أو تخشبت مشاعرنا بفعل العنف المتواتر الذي يلازمنا بعد ثلاثة حروب ,و أرهاب يداهمنا , أم اللامبالاة لحياة غارقة بالاحباط و المعاناة , أم ان كل ذلك أصاب مشاعرنا التي غدت متوترة منفعلة . و كبت صراخ غاطس في ذاكرة مكتنزة بالاحزان و البشاعات التي تطل جراء أساليب مذهلة مضمرة و أخرى معلنة في ميدان العنف و الحسد و التكاره و التفنن في تعذيب الاخرين , أم ان البيئة الملوثة بتلك الوسائل أغتصبت عذرية مشاعرنا الانسانية .
تلك المشاعر التي تكمن سعادتها بالتواصل الايجابي و المحبة للآخرين ,و الايمان بجوهر الدين و ليس التلفع بثياب الدين .