‏كانت‭ ‬السيدة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬من‭ ‬أبطال‭ ‬الوحدة‭ ‬العاطفية‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استحالت‭ ‬عليهم‭ ‬الوحدة‭ ‬السياسية‭. ‬كانت‭ ‬تغنّي‭ ‬أغاني‭ ‬الحب‭ ‬وقصائد‭ ‬شعراء‭ ‬الغزل‭ ‬فتحظى‭ ‬بمليون‭ ‬قبلة‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬من‭ ‬عشاق‭ ‬الشعب‭ ‬العربي‭.‬

‏ولولا‭ ‬أن‭ ‬العناق‭ ‬لا‭ ‬يحلّ‭ ‬مشكلة‭. ‬فنحن‭ ‬العرب‭ ‬أكثر‭ ‬الناس‭ ‬نذوب‭ ‬في‭ ‬العناق‭ ‬بالأحضان،‭ ‬ونطبع‭ ‬القبلات‭ ‬فوق‭ ‬الخدود،‭ ‬ونتغنّى‭ ‬في‭ ‬عفّة‭ ‬بالقلوب‭ ‬الخافقات‭.‬

‏وفي‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬دواوين‭ ‬كاملة‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬عناق‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬على‭ ‬صدور‭ ‬الجميلات،‭ ‬وتقبيل‭ ‬شفاه‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬أقدام‭ ‬الحبيبات،‭ ‬ولثم‭ ‬الأحزان‭ ‬على‭ ‬الجدران‭.‬

‏وكان‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬حافظ‭ ‬من‭ ‬أبطال‭ ‬الوحدة‭ ‬العاطفية‭ ‬في‭ ‬أغنيته‭ ‬الوطنية‭ ‬الشهيرة‭ “‬وطني‭ ‬حبيبي‭ ‬الوطن‭ ‬الأكبر‭”‬،‭ ‬غنّى‭ ‬فريد‭ ‬الأطرش‭ ‬للوحدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ “‬بساط‭ ‬الريح‭”‬،‭ ‬وسيد‭ ‬مكاوي‭ “‬الأرض‭ ‬بتتكلم‭ ‬عربي‭”‬،‭ ‬وعبد‭ ‬الوهاب‭ “‬أخي‭ ‬جاوز‭ ‬الظالمون‭ ‬المدى‭”. ‬

‏وبرغم‭ ‬هذه‭ ‬الأغاني‭ ‬والأناشيد‭ ‬كلها،‭ ‬فإننا‭ ‬لم‭ ‬نسترجع‭ ‬شبراً‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين،‭ ‬التي‭ ‬ملأنا‭ ‬بها‭ ‬الهواء‭ ‬صياحاً‭ ‬ونواحاً،‭ ‬بل‭ ‬أضعنا‭ ‬مع‭ ‬فلسطين‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬أوطاننا‭ ‬العربية‭.‬

‏وكنا‭ ‬نتوهّج‭ ‬جلالاً‭ ‬بصور‭ ‬أبطال‭ ‬العروبة‭. ‬نتعشّقها‭ ‬ونعلّقها‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬كسيف‭ ‬يماني‭ ‬مرصّع‭ ‬بالذهب،‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬المختار‭ ‬إلى‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭.. ‬ثم‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬حروبنا،‭ ‬وأغانينا،‭ ‬وأناشيدنا،‭ ‬وفلكلورنا،‭ ‬ممزّقين،‭ ‬محطمين،‭ ‬ورأينا‭ ‬المثل‭ ‬العليا‭ ‬تتهاوى‭ ‬أمام‭ ‬عيوننا‭ ‬تحت‭ ‬أنقاض‭ ‬الهزيمة‭.‬

‏راحت‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬وانقضت‭. ‬وتوالت‭ ‬علينا‭ ‬الصادمات‭ ‬الفاجعات،‭ ‬وتعاظم‭ ‬الخطب،‭ ‬واستبدلنا‭ ‬الوطن‭ ‬الأكبر‭ ‬بأرخبيل‭ ‬من‭ ‬جزر‭ ‬الطوائف،‭ ‬والمذاهب،‭ ‬وتطيفت‭ ‬الأحزاب،‭ ‬وتألهت‭ ‬الزعامات،‭ ‬وانقسمت‭ ‬المجتمعات،‭ ‬وتيّتمت‭ ‬القوميات،‭ ‬وخرجت‭ ‬دويلات‭ ‬من‭ ‬كانتونات‭.. ‬سقطت‭ ‬الخريطة‭ ‬كما‭ ‬سقط‭ ‬القناع‭ ‬الأخير،‭ ‬ونحن‭ ‬نسترق‭ ‬النظر‭ ‬كمن‭ ‬يتلصّص‭ ‬على‭ ‬عواصم‭ ‬عربية‭ ‬لم‭ ‬تسقط‭ ‬بعد‭. ‬

‏تقاتل‭ ‬أبناء‭ ‬العروبة‭ ‬على‭ ‬الديّات،‭ ‬وامتطى‭ ‬الفرسان‭ ‬جيادهم،‭ ‬وتجردت‭ ‬السيوف‭ ‬من‭ ‬أغمادها،‭ ‬وتنافست‭ ‬المشيخات‭ ‬على‭ ‬الرئاسات،‭ ‬وسال‭ ‬دم‭ ‬الأشقاء‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬العمومة‭ ‬والخؤولة،‭ ‬وتنازعت‭ ‬البطون‭ ‬والأفخاذ‭ ‬في‭ ‬القبيلة‭ ‬العربية‭ ‬الواحدة،‭ ‬وتذكّر‭ ‬ذوو‭ ‬القربى‭ ‬يوسف‭ ‬الذي‭ ‬ألقاه‭ ‬أخوته‭ ‬في‭ ‬البئر‭. ‬وقالوا‭ ‬أكله‭ ‬الذئب،‭ ‬ففاضت‭ ‬دموعهم،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬البحتري‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬جرت‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬عمومته‭:‬

‏إذا‭ ‬احترَبَتْ‭ ‬يوماً‭ ‬وفاضت‭ ‬دماؤها

‏تذكَّرتِ‭ ‬القربـى‭ ‬ففاضتْ‭ ‬دُموعُـها

‏راحت‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬وانقضت،‭ ‬أيام‭ ‬الأناشيد‭ ‬والهتافات‭ ‬والزعاريد‭ ‬والتلفزيون‭ ‬بالأسود‭ ‬والأبيض،‭ ‬وأطلّ‭ ‬زمن‭ ‬استعنّا‭ ‬بالغريب‭ ‬على‭ ‬أخينا‭ ‬وابن‭ ‬عمنا‭:‬

‏وأحياناً‭ ‬على‭ ‬بكـر‭ ‬أخينـا‭ ‬

‏إذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نجـد‭ ‬إلا‭ ‬أخانا‭ ‬

‏واستبدلنا‭ ‬كتاب‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬بكتب‭ ‬التربية‭ ‬الوطنية،‭ ‬ثم‭ ‬ألغينا‭ ‬هذه‭ ‬الوطنية‭ ‬من‭ ‬ثقافتنا‭ ‬التربوية‭. ‬وكم‭ ‬كنّا‭ ‬نقرأ‭ ‬لمفكري‭ ‬العروبة‭ ‬من‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الكواكبي‭ ‬إلى‭ ‬رفاعة‭ ‬الطهطاوي‭. ‬ومن‭ ‬البساتنة‭ ‬إلى‭ ‬إبراهيم‭ ‬اليازجي،‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬صرخته‭ ‬الشهيرة‭: ‬تنبّهوا‭ ‬واستفيقوا‭ ‬أيها‭ ‬العرب‭.‬‭ ‬

‏لكن‭ ‬الأمة‭ ‬النائمة‭ ‬على‭ ‬أوجاعها،‭ ‬وثاراتها،‭ ‬لم‭ ‬تتنبّه‭ ‬وظلت‭ ‬عروبتها‭ ‬تغفو‭ ‬على‭ ‬الخديعة‭ ‬والضلال،‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬محنّطات‭ ‬الرجال

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *