قال علي ابن ابي طالب عليه السلام : (ان معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة وتعقب الندم)، ولعل ما يلفت الانتباه في القول الترتيب، فقد بدء بالناصح ثم الشفيق تلاه العالم وأخيراً المجرب، ليخبرنا ان النصيحة لا تقترن بالعلم، فقد يكون انسان بسيط ، لكنه يمتلك انسانيه طاغية مدافة برحمة يُسدي نصيحة يُنتفع بها، وأجزم انني امتلك ثلاث مما ذكر في قول سيدي الا صفة العالم.
سأحدثكم اليوم عن تجربة شخصية عشتها اثناء تأديتي لـ ( خدمة العلم) بزمن نظام صدام والبعث. سنة 1986 التحقت لـ “تجنيد الكوت”، بعد ان انتهت دراستي كطالب في اعدادية صناعة الثورة، ما ان قرأ النائب الضابط مواليدي ولاحظ انني ملتحق بعدهم بسنوات، رفع رأسه متهكماً ومتسائل ( وين جنت؟ ربعك شهداء واسرى!!)، فثارت ثائرتي لطريقة استقباله وكلامه، رددت عليه بقوة وحجة قوية احرجته امام زملائه الذين تفاعلوا معي، لكن ذلك لم يجمح من غريزته ومنبته الخبيث، فألحقني متخلفاً عن السوق الى (مركز تدريب الديوانية)، وما ادراك ما مركز تدريب الديوانية؟!!!.
التحقت الى مركز تدريب الديوانية، فكان جحيماً بكل ما تعنيه مفردة جحيم، فهو معد للهاربين والمتخلفين، ويمثل عقوبة، فقد كنا ندخل ساحة العرضات قبل الفجر وينتهي التدريب عند الساعة الثامنة مساءاً، لم يكن التدريب وحده مشكلة، بل كانت الكارثة تتمثل في “سجن المركز”، فنزلاءه معظمهم محكومين بالأعدام او احكام ثقيلة بدعاوى ( اللواط)، وكنا نسمع قصص مفجعة راح ضحيتها جنود جدد اوقفوا بالسجن بسبب غياب عن الدورة يوم أو يومين، فقد كان هؤلاء المجرمون يتفننون بطرق الاعتداء على الشباب الجدد، وخشية من ايداعي ذلك السجن، كنت اتجنب الغياب، وفي احدى المرات، وبعد موقف انساني دافعت عن احد الجنود المعاقبين، منحني عريف التدريب اجازة يوم السبت اضافة الى الخميس والجمعة، ولكن على مسؤوليته، ترددت في قبول المساعدة كونها دون علم المافوق، ولكن قساوة التدريب جعلتني اقبل لأن راحة يوم من التدريب شيء لا يوصف.
التحقت يوم الاحد، لأفاجئ بضابط التدريب وهو يفتش عن حضور يوم السبت، تنصل عريف التدريب عن مسؤوليته عن نزولي، وكنت حريصاً على عدم احراجه، بأخبار الضابط بأن عريف التدريب هو من منحني اجازة على مسؤوليته، فأحصى الضابط الغائبين، وأمر نائب ضابط بجنبه أن يأخذنا الى سجن المركز، استدار لينصرف، فناديت عليه بصوت مرتفع، يُعد كفرا بنظام الجيش آنذاك ( سيدي لا تحرج النائب ضابط…. عندك غير هذا السجن ادخل …. اما بهذا السجن …. اعدمني هنا بساحة العرضات ومستحيل ادخل لهذا السجن)، وفي لحظة رحمة تبسم الضابط، ويبدو انه فهم قصدي لأن قصة سجن المركز اشهر من نار على علم، وامر النائب ضابط ان يعاقبنا بساحة العرضات ويخلي سبيلنا، في نفس اليوم زارت المركز لُجنة من بغداد تابعة لقوات الحرس الجمهوري تُخير الجنود للانضمام لصفوف قوات “الحرس الجمهوري”، فقررت الالتحاق بالحرس الجمهوري للخلاص من جحيم الحياة العسكرية، سيما وأن قوات الحرس الجمهوري كانت قوات هجومية، فقلت في نفسي اما ان اموت او اتعوق واخلص من الجيش، ولا ابقى بين (حلق الذقن وصبغ البصطال)، نصحني زملائي بعدم الانخراط بصفوف الحرس الجمهوري لخطورته، لكنني لا استطيع البوح بقناعتي، فقد اتهم بالمبالغة، خرجنا سبعة فقط من مركز التدريب بأكمله، تم نقلنا بعجلة (ريم) الى مدرسة قتال الحرس الجمهوري في (معسكر الرشيد)، بعد نهاية الدورة تنسبت الى صنف (الهندسة الآلية العسكرية ف.2. ل.18 حرس الجمهوري)، هناك التقيت ضابط شريف آمر المفرزة (م. اول عبد اللطيف منذر عبد اللطيف الشمري)، وكوني خريج اعدادية سلمني قلم المفرزة الافراد والمستودع، بعدما تيقن من امانتي ومصداقيتي التي سببت لي بعض الاذى، كنت وضابط المفرزة نصلي، هو على مذهب وانا على مذهب آخر( لازال طعم خلافاتي وحواراتي معه بشأن قضايا الدين، لم يفقد حلاوته، وكم بي شوق للقائه)، وعلى خلفية سمعته ودينه عهد اليه آمر الفوج التحقيق بـ ( دعاوى اللواط) بالفوج، بعدما عرف افوج بأسم فوج (العرض واحد)، الطامة الكبرى كنت انا من يدون اقوال الضحايا والمعتدين، لكون الموضوع يحتاج الى عدم التشهير والمحافظة على اسرار التحقيق.
ماقصدته بمقدمتي، أن الجيش العراقي الحالي، هو جيش محترف يضم بين صفوفه افراد تطوعوا بقرار اختياري، وهم مهيئين للقتال يمتلكون الشجاعة ويتلذذون بالقتال، ونحن مع هذا الجيش بتلك المواصفات، ونقف بالضد من قانون التجنيد الالزامي الذي قد يضم بين صفوفه اشخاص غير مهيئين لمواجهة ظروف العسكرية فيتحولون عناصر ضارة بصنف القوات المسلحة، فضلاً عن وجود حاجة حقيقية حالية، وخير دليل على قوة هذا الجيش، هو السفر البطولي والملاحم الاسطورية التي سطروها واذهلت جيوش العالم، عندما برزوا الى مواجهة الغزو البربري الداعشي، لذلك نحذر من اقرار قانون (خدمة العلم) في المرحلة الحالية كونه يثير كثير من علامات الاستفهام!.