ربما يختلف الكثيرون على تفسير مفاهيم ما يجري في المجتمع منذ سنوات، لكن الذي أتفق عليه ولا خلاف في ذلك هو أن خط إتجاه بناء ثقافات جديدة في المجتمع قد وِجد وأصبح واقعا كظاهرة غريبة على مجتمعنا، ذلك نتيجة إفرازات المواقف السياسية والاجتماعية وهذا أمر طبيعي لمثل هذه المواقف، حيث أن جميع البلدان التي تتعرض الى تغييرات جذرية في هياكلها وتشهد تقلبات سياسية سريعة تعقبها تقلبات اقتصادية وإدارية، تكون عرضة لظهور كثير من المفاهيم وطمس مفاهيم وقيم أخرى مقابلها، هذا إذا لم تتكفل المؤسسات بكل أبعادها من محاربة هذه الظواهر ومحاولة وضع النصاب في محله وإعادة حقوق المجتمع بطريقة تضمن أيقاف الظاهرة ومحاسبة من يقومون بالترويج لها عن عمد أو جهل، تلك هي ظاهرة (ثقافة الإتهامات).
لقد دفع المجتمع ثمنا كبيرا نتيجة هذه الثقافة الدخيلة وضحى بالكثير من عناصره الحضارية المتوارثة، وبالكثير من أفراده ممن ساهموا وكانوا حجر بناء في المجتمع من علماء وأطباء وفنانين وأدباء وأصحاب الفكر وخبراء التنمية والهندسة والبناء والقادة ومن العاملين المخلصين لمهنيتهم، وربما يكون هناك تساؤل منطقي: لماذا هذه الإتهامات؟ ومن المستفيد منها؟ الموضوع لا يحتاج الى عناءً كبيرا لإثباته أو قراءته فهو نتيجة وليس سبباً لما ذكرناه من إرتباط مباشر بالتغييرات المفاجأة.
لا نوجه الإتهام لأحد ونحن نتحدث عن هذه الثقافة السلبية التي يمكن أن نقول أنها نخرت جسد مجتمعنا وشوهت نقاء الأفكار وأمتلأت بها كل شواغر المكانات وشغلت ضعف النضوج في التفكير، فقد يكون الكثير قد ساهم فيها دون دراية، لكن الأهم في مثل هذه المواقف هي سرعة مواجهة الظاهرة من خلال برامج (تنقية الإتهامات) التي يمكن أن تتكفلها الدولة ومؤسساتها المتخصصة وبمشاركة بعض مؤسسات المجتمع المدني، وقد يكون هذا البرنامج تحت أي عنوان، فهذا البرنامج الاجتماعي يتكفل بمساندة إدارة الدولة في عمليات التصحيح والبناء، وهو في ذات الوقت برنامج ياخذ حيزا لا بأس به من عمليات مكافحة الفساد الإداري، وذلك لو أتهم شخص نزيه ومهني في عمله يعني ذلك أسقاط تاريخه وحاضره الذي تكفلت به الدولة بل كلفها الكثير علاوة على أنه في بناء مثل هذه الشخصية سوف نحتاج الى زمن يساوي عمر المتهم مع خبرته مضروبا في اثنين لكي نحصل على بديل بذات المواصفات.
الموضوع يحتاج الى وقفة مراجعة سريعة وجدية ودقيقة دون المساس بحرية الرأي أو مواقف الآخرين، فالمقصود هنا هي الإتهامات الباطلة التي تهدم المجتمع، وكل من حولهِ حالات وأمثلة كثيرة على ذلك.. والمشكلة لا تنتهي عند أتهام برئ وقطع تواصله مع المجتمع لأي سبب كان بل تمتد الى الإتيان ببديل فاسد يساهم في نشر هذه الثقافة بحرية فتكاً بالمجتمع وقد يدعمها أحيانا محللون دون دراية وعمق وهذه من المؤشرات السلبية التي تنخر بالمجتمع بصورة مستمرة. الآن لدى المجتمع أبناء يشكلون نسبة عالية منه أما مهجرون أو مهاجرون أو ممن ضاعت هويتهم بين هذا وذاك، ومنهم ألاف ممن يمتلكون رأس مال فكري يعادل مئات المصانع وهم يمثلون المؤسسات الفكرية المتنقلة، وحين تبرز إحدى هذه الشخصيات بعد عناء ومعاناة يعود المجتمع ليعترف انهم من أبناءه، وهذه مشكلة عامة ولا تخص بلد عربي دون آخر، فالغرب ودول الشرق ممتلئة بالمؤسسات الفكرية الشخصية وغالبهم مبعدون بسبب الثقافات السلبية كالإتهامات والخوف وغيرها. لقد كانت المراهنة ضمن هذه الثقافة هو العجز والحاجة الاقتصادية والتسكع بين دوائر الإقامات بين الدول، وفعلا أدت نتائجها السلبية فمنهم من مات او عجز ومنهم من غير مهنيته وعلميته الى ما يسد رمقه، والذي يهمنا الآن هو أن يستمع المجتمع المتمثل بالمؤسسات المختصة أصوات الآخرين من خلال من يمثل هذه المؤسسات في إسلوب علمي حيادي ليتعافى المجتمع من بعض ما أصابه من ضعف نتيجة هذه الظاهرة، ولتكن برامجنا القادمة تهتم بإعادة إحياء القيم المجتمعية مع عناصرها المكونة لإرادة المجتمع النقي الصادق المعبر عن تأريخ وأصالة المجتمع.
{ الأمين العام للرابطة الدولية للباحث العلمي – لندن
رئيس المركز البريطاني للدراسات والبحث العلمي