لا يمكن للنسيج الاجتماعي أن يتماسك بالشعارات والمناشدات والأدعية ، ولا يمكن للأوطان أن تصمد بوجه الخطوب مالم يكن الشعب موحدا ، ومن العسير أن ترتقي البلدان وتأخذ مكانتها بين الأمم اذا الشعور بالانتماء الوطني خفيضا ، ويتحقق الانتماء عندما يتملك المرء شعور بالمواطنة ، أي لا تمييز بين أفراد المجتمع على أساس الدين او المذهب او القومية او النوع الاجتماعي . كل هذه القضايا لا يُعرف لها تجسيد على أرض الواقع بلا مؤسسات وآليات عمل ، وان تركها سائبة نوع من العبث ، واحتمال تحققها بعيد المنال ، وحدث أن بنينا آمالا عراض على أوهام ، فاذا بالنسيج الاجتماعي يتصدع مع أول هزة ريح ، ومن التصدع ما كان غائرا ، يوم كشّرت الطائفية عن أنيابها ، لتنهش جسدنا الوطني المعروف بتسامحه واعتداله ، فدفعنا من الأثمان أبهظها ، وما كان يجب ان تُدفع ، لماذا ؟ لأن التأسيس هشا ، ووحدة المجتمع خارج الاهتمام .
لذلك أقول جازما : اذا لم نعمل على تمتين نسيجنا الاجتماعي بالمؤسسات التي يأتي هذا العمل في اطار أهدافها المنظورة او غير المنظورة ، فالتقسيم مصيرنا الحتمي تحت مسمى ( المكونات ) التي تتغذى عليها هذه المشاريع ، فالتقسيم صار بنظر البعض حلا لبلد تعصف به الأزمات ، وشعور بالتمييز آخذ بالتجذر في نفوس كثيرين ، ولا أجمل من ذلك عند أعداء العراق .
في عام 2007 عندما تعالى أوار الطائفية كتبت مقالا في واحدة من صحفنا العامة بعنوان ( صهر المجتمع ) ، وأعني بذلك ان المجتمع لا يمكن له التوحد ولنسيجه التماسك ما لم ( يُصهر ) ، بمعنى خلط جميع ألوانه الاجتماعية ( المكونات ) في مؤسسات الصهر الاجتماعي ، وأولها ( الجيش ) من خلال التجنيد الالزامي ، لتكون جميع ألوان شعبنا جنبا الى جنب ، وفي خندق واحد ، وعند ذلك لن تعلو الهويات الفرعية على الهوية الوطنية ، ولن يكون للطائفية او لمظلومية المكون حضورا .
وثاني تلك المصاهر هي الجامعات ، وكنت تحدثت مع وزير التعليم العالي الأسبق الدكتور ذياب العجيلي بهذا الشأن ، وقلت له : يجب أن تضع سياسة الوزارة مسألة الصهر الاجتماعي بحسبانها عند استحداثها للجامعات والكليات في العاصمة والمحافظات ، لأن بعضا من طلبتنا صار يقضي عمره الدراسي في قضاء او ناحية ، وفي أحسن الأحوال في محافظة ، بعد ان استُحدثت كليات في أقضية وفروع لها في النواحي ، وكليات متشابهة الاختصاص في العديد من المحافظات ، وربما يعّين في المدينة نفسها ، بمعنى انعدام التفاعل مع اخوانهم من المحافظات الأخرى ، وبالتالي لا صداقات ولا مصاهرات ولا ثقافة وطنية واحدة .
من تجربتي الشخصية ان غالبية أصدقائي اولئك الذين تعرفت اليهم في الجامعة والجيش ، وعندما لم شملنا متفضلا الفيس بوك افتراضيا ، التقينا في العاصمة واقعيا ، فاذا بنا ( العراق كله ) من زاخو وحتى الفاو . ولم يحدث ان زرت محافظتي البصرة والموصل بعد تسرحي من الجيش عام 1988 وذلك ما أتمناه ، لكن المشاغل والارتباطات وعدم وجود داع ملح حالت دون ذلك ، فالجيش والجامعة يتيحان لنا التعرف الى الإخوان ، والأكل في اناء واحد ، والعيش ضمن تجربة مشتركة ، وذلك يحقق التلاحم والاندماج ، ومعرفة ربوع وطننا وغيرها ، والمحصلة تنمية روح الانتماء . ولإدامة التماسك لابد من تواصل عملية الصهر وعدم توقفها عند مرحلة معينة .
أعرف ان التجنيد الالزامي بحاجة الى بنى تحتية ، وأموال طائلة ، وقد يكون حاضنة لبعض الفاسدين ، وربما يمر أبناؤنا بظروف قاسية ، لكن لا خسارة في ذلك مع هدف كبير يرتبط به مصيرنا ، ومع احترامي لمن يختلف معي بالرأي ، لكن صدقوني ان دولا عديدة تسعى لشرذمتنا ، لذا ستكافح من أجل عرقلة هذا المشروع سرا او علانية . لأنها لا تريد للعراق التعافي ولشعبه التماسك . وأعجب كيف تفكر بعض النخب؟