لا يوجد مبلغ تصرفه اية حكومة في العالم أو هيئة تابعة لها أو مسؤول فيها من دون أن يكون ذلك مقيداً ومعلوماً، وانّ الصرف في غير موضعه الصحيح يتحول الى قضية رأي عام تقيل وزراء ومسؤولين بسرعة البرق، ولا أقول سرقة مبالغ او اختلاسات ممنهجة، فذلك لا يوجد سوى في الدول التي تتصدر درجات سلّم الفساد، والعراق من بينها.
ليس مقنعاً اطلاقاً، انَّ السرقات تمشي على قدم وساق شهوراً وسنوات، ثمّ يجري التوقف الفجائي عند واحدة أو اثنتين منها وتحويلهما الى نقطة ضوء لتصفيات سياسية من نوع اخر ولمنح شرعية لبعض الذين يعانون من تراكيب غير سليمة في البناء.
لا توجد آلية شفافة ورصينة وفعالة لرصد الفاسدين ومحاسبتهم، وهناك عناوين غائمة الحدود مع القضاء، كهيئة النزاهة وسواها، فالمسألة لا تحتمل إلا ان تعامل قضائياً معاملة ضمن الباب الاجرامي والجنائي، ذلك انّ الصحيح هو إحالة السرقات وأصحابها الى القضاء من السلطة التنفيذية بدعاوى موثقة رسمية كأقصر طريق. أمّا التسميات المتوالدة في الإطار الحكومي والبرلماني بما يخص المحاسبة والنزاهة فتلك مهمة تحتمل التغطية والفساد كما وصفها نائب سابق في لقاء تلفزيوني قائلا انّ الجميع مرتشون وانهم في النزاهة البرلمانية يقبضون الملايين لسد قضايا مفتوحة على سياسيين، وانهم قد لا يسدونها بعد القبض طبعاً.
تردي الخدمات في قطاع الصحة والتربية والتعليم والنقل كونها على تماس مباشر مع المواطنين دفعت الكثير من الناس أن يقولوا بطريقة تهكمية: كنّا سنسكت على سرقاتهم لو كانوا يقدمون خدمات جيدة للعراقيين. وهذا كلام غير مسؤول ولا يمكن قبوله، لكنه يجري مجرى السخرية المرّة على لسان أي مواطن محبط. لأنّ السليم هو انّ الفاسدين لن يقدموا خدمات جيدة ولن يفكروا بحاجات الناس أصلاً، وانّ مجلس النواب كان المكان الرخو الذي تمر من خلاله تسويات الفساد عبر الإهمال والتقصير المتعمد او عن جهل ونقص خبرة، فضلاً عن أنّ أصحاب السلطة التنفيذية يتوهمون دوما انهم خارج الشبهات مادامت عناوينهم تمثل السلطة، وما أن تنتهي فترة حكومة ما لتأتي اختها بعدها حتى تلعنها وتكشف عورتها كما فعلت هي ذاتها مع التي سبقتها. دوامة من الثرثرة الحكومية والبرلمانية من دون تأسيس حقيقي لبناء قوي يمكن أن يكون الدستور بعد تعديله ثوباً لائقاً له.