لا يتأتى وصف مجتمع ما بالمتقدم أو المتخلف اعتباطيا أو شعاريا ، و إنما يجب أن يتحدد الوصف موضوعيا وفق معايير منضبطة بفلسفة علم الاجتماع .
لكي يصح وصف المجتمع بالتقدم ، لا بد من وجود المعالم التالية التي نبّه عليها – بحق – غير واحد من المتخصصين في هذا المجال : –
1- استعداد المجتمع و تقبله منهجيا للفكر النقدي و إن مسّ الموروث الثقافي للمجتمع، بمعنى عدم اتخاذ موقف المناوأة للفكر النقدي ، لمجرد كونه فكرا ناقدا .
2- تفاعل المجتمع مع الإبداع الحضاري و الفكر الجديد .
3- عقلانية المجتمع و التزامه بمرجعية العقل و العلم .
4- نزعة التطلع للمستقبل و السير وفق ما تتطلبه معطياته .
5- استجابة المجتمع لعمليات التغيير الاجتماعي في الحياة .
و بالمقابل ، يوصف المجتمع بالتخلف إذا اتسم بنقيض معالم المجتمع المتقدم ، فمناوأة المجتمع للفكر النقدي و عدم انسجامه معه ، و غياب سلطة العقل أو ضعفها ، و عدم التفاعل مع الإبداع الحضاري و التكلس على الموروث الفكري و السلوكي ، و عدم الاستجابة لعمليات التغيير الاجتماعي في الحياة ، و الانشداد للماضي و اجتراره بدلا من السير وفق ما تتطلبه معطيات المستقبل ، كلها معالم لتخلف المجتمع .إن مهمة الإصلاح الفكري و التنوير العقلي ، هي مساعدة المجتمع للتحول من التخلف الى التقدم ، هذا التحول الذي تحقق في الغرب و أنتج النهضة و الحضارة الحديثة ، والتي لم يكن بإمكان أوروبا تحقيقها ، إلا بعد التحول الذي حققه الإصلاح الديني والفكري و التنوير العقلي و الذي استغرق قرونا من الزمن .و قد يقول قائل : إن الحضارة الحديثة و مجتمعاتها ، تعاني من أزمات و تشكو من تناقضات .لقد غاب عن هذه المقولة ، التمييز بين أزمات التقدم و أزمات التخلف ، فمجتمعات الحضارة الحديثة ، هي مجتمعات متقدمة ، و التقدم بوصفه عملا بشريا و حركة اجتماعية ، لا بد أن ترافق مسيرته تناقضات تنشأ منها أزمات ، يمكن لقواعد التقدم ما دامت حاكمة أن تتجاوزها تدريجيا ، و تبقى مسيرة التقدم مستمرة ومتواصلة .
ازمات التخلف
وأما الأزمات التي تعاني منها مجتمعات التخلف ، فهي أزمات ناجمة عن التخلف نفسه ، و واقعُ التخلف غيرُ قادر على تلافي هذه الأزمات ما دام التخلف قائما في هذه المجتمعات ، بل سيلقي بها استمراره فيها خارج دائرة الصيرورة التاريخية . وقد يعتبر بعض السطحيين، أن استخدام التقنيات الحديثة و الذي قد يصل الى مستوى محاكاتها صناعة و إنتاجا ، و النجاح في دراسة المناهج العلمية في المدارس والجامعات ، هما المعلَم البارز للمجتمع المتقدم ، و المائز بينه و بين المجتمع المتخلف .لقد فات هؤلاء ، أن هذين الأمرين ، يرتبطان بالقيمة الثقافية للمنجز الحضاري ، فإذا انفصلا عنها ، لم يؤديا الهدف المطلوب ، بل قد يستخدمان في ترسيخ التخلف في المجتمع . فلن تكون حداثيا لمجرّد أنك اكتسبتَ تعليما حديثا ، فكثير من حملة الشهادات العليا لم يحصلوا إلا على كمّ معلوماتي حديث ، بينما ظل بناؤهم العقلي خرافيا أو طائفيا . ولن تكون حداثيا لمجرد مهارتك في التعامل مع التقنيات الحديثة ، فأشد المنظمات الأصولية إرهابا تمتلك هذه المهارة و تستخدمها في تكريس مفاهيمها المتخلفة .كذلك ، ليس مجرد الأخذ ببعض المظاهر الحضارية لا سيما القشور ، من سمات التقدم في المجتمع ، ما لم يكن المجتمع تقدميا في الجوهر بتجسيد معالم المجتمع المتقدم التي ذكرناها في مطلع المقال .إن التطلع للتقدم ، هو الخطوة الأولى في طريق التقدم ، بيد أن تحقيق هذا الهدف ، يحتاج الى ثورة تغييرية لبناء مجتمع متقدم ، و هي مسؤولية كل فرد في المجتمع ، يجب أن يبدأ بنفسه ثم بمحيطه ، و مسؤولية النخب السياسية و الفكرية التي تماهت بوعي مع متطلبات التقدم و عملت على تجسيدها في الفكر و السلوك . ويبقى الجهد النخبوي في بناء مجتمع متقدم قاصرا ، ما لم يعمل على إيجاد تيار فاعل في المجتمع قادر على تحقيق هذه النقلة النوعية الفاصلة .