آلاف اليمنيين الذين خرجوا من بيوتهم، في وجوههم دهشة الحزن وفي عيونهم دموع الرحيل، تاركين اشغالهم وأي شيء مهم خلف ظهورهم ، سائرين في سيل من البشر يكاد لا ينتهي، مارّين في شوارع صنعاء خلف جنازة الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح، ليس بالضرورة ان يكونوا قد قرأوا له قصيدة أو مقطعاً شعرياً واحداً ، وليس بالضرورة انهم كانوا من طلبته أو من جُلّاس مجلسه أو من المنتمين الى رؤاه الفكرية والشعرية والانسانية، لكنهم جميعا، مَن كان منهم على ذات اليمين او على ذات الشمال في هواه ومشربه ومذهبه ونزعته، يدرك انّ هذا الشاعر الراحل انسان يمني خالص قبل أي عنوان آخر، جعل بكلماته اليمن علامة فارقة في الثقافة العربية المعاصرة واسماً يسمو فوق دخان الحروب وانقسامات السياسة وضغائن المتبضعين في أسواق الأحزاب، وجميع أولئك وسواهم من اليمنيين في أي مكان تحت الشمس، سمعوا أو قرأوا أو استنشقوا تلك الروح المقالحية السامية ،حين قال هذا الشاعر العاشق لبلده على نحو اسطوري:
«في ضميري يَمَنْ
تحتَ جِلْدي تعيشُ اليمنْ
خلفَ جَفْني تنامُ
وتصحو اليَمَنْ،
صرتُ لا أعرفُ الفرقَ ما بينَنا
أيُّنا يا بلادي يكونُ اليمنْ؟»
ديوانه الأول، كان « لابدّ من صنعاء» وديوانه الأخير في يوم تشييعه كان أيضاً « لا بدّ من صنعاء” و” لابدّ من اليمن” و” لابد من هذه الروح التي تسكن الأرض الخالدة”.
أيّها اليمنيون، حافظوا على إرث المقالح وعلّموه اطفالكم في المدارس وازرعوه في بساتينكم وانثروه تمائم سعادة وأمل وتحد فوق رؤوس جبالكم، انما تفعلون ذلك لتطفئوا نار الحرب وتعيدوا البسمة الى الوجوه التي لفحتها شموس القرون منذ خلق الله البسيطة، فكانت الوجوه الأكثر نوراً يوم كانت سواها من الوجوه تهيم في الصحاري تبحث عن ذاتها.
أيّها اليمنيون، غادروا فترة الغفلة والوهن، لا تتركوا الحبل على الغارب للذين يبيعون ويشترون باسم بلادكم التي لن يقهرها تجارُ حروب ولا جيوشُ مستوردة ولا زعامات مدجّنة ولا صِرافات شراء الذمم والولاءات.
طوبي لكم إرث المقالح فلا تُفرّطوا به، وافخروا، مثلما أنا بين ملايين العرب، أفخر به وأضعه في مقدمة أسماء ثقافتنا التي تقاوم من دون استسلام حصار تيارات التكلّس والاستباحة والعبودية والتدجين والتبعية.