نشر د. مظهر محمد صالح نائب محافظ البنك المركزي سابقاً والمستشار في مجلس الوزراء دراسة مكثفة بعنوان “مأزق الليبرالية الجديدة والنافذة الرقابية الرقمية للعملة الأجنبية في العراق” تناول فيها متغيرات عديدة فرضتها سلطات المصرف الاتحادي الأميركي وبقية السلطات الرقابية في الولايات المتحدة الأميركية بالتعاون مع الاتحاد الأوربي وأطرافاً عديدة، وهي ورقة دراسة قيمة لمختص نثق به ونحترمه، وكنا ضمن جمع المتظاهرين الذين تضامنوا معه عندما اتخذت إجراءات معينة ضد سيادته.
الدراسة تخبرنا بأن السبب الرئيس وراء ارتفاع سعر الدولار مقابل الدينار العراقي ناجم عن الإجراءات الرقابية الأميركية وحلفائها، وبالطبع وكما يعرف المواطنون، فأن الولايات المتحدة في الأصل فرضت إجراءاتها الرقابية لمحاربة الإرهاب الدولي من جهة، والتصدي للفساد والجريمة المنظمة المحلية والعالمية من جهة أخرى، بجانب حقيقة مهمة وهي أن الإجراءات الرقابية الأميركية تسعى في الوقت نفسه وبكل السبل إلى حرمان الجارة إيران من أية موارد بالعملة الصعبة، ضمن سياسة الحصار الأميركي على إيران، في محاولة لفرض بعض التراجع عن المواقف السياسية الإيرانية في المنطقة من جهة، ومسألة تطوير “البحوث” النووية الإيرانية والارتقاء بنسبة تخصيب اليورانيوم.
لكن من ناحية أخرى لم يتطرق استأذنا إلى قضية بالغة الأهمية وهي تصدي الإدارة المصرفية الأميركية وحلفاؤها للتحويلات الهائلة من العراق إلى دول الجوار وبقية العالم بعيداً عن أية مستلزمات تمويلية تجارية أو غيرها، بمعنى أن السلطات الاتحادية الأميركية رصدت حوالات مصرفية ضخمة ليس لها ما يبررها، بمعنى أنها جزء من غسيل الأموال لمفاصل متنفذة في العراق، ولعل هذا بعض مما أدى إلى وقف تعامل بعض المصارف بالحوالات المصرفية ومزاد العملة الدولاريين.
إن أستاذنا الكبير مظهر محمد صالح فسر لنا مشكوراً جوانب من أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار على حساب قيمة الدينار العراقي ولقمة خبز العراقيين وكسائهم وبقية احتياجاتهم الضرورية، وأعتقد أنه يريد ان يقول لنا أن “اصبروا أيها العراقيون، فمنافذ التعامل مع الدولار وحوالته ستعود قريباً إلى سابق عهدها وينخفض الدولار”، لكنه لم يحدثنا عن الإجراءات التي ينبغي التعجيل بتنفيذها لضبط مسألة الحوالات الهائلة التي عرفنا بعضها في ما سمي بـ” سرقة القرن”، التي أظن انها بعضاً من سرقات أعظم، وهي مجرد بعض نتوءات جبل جليد الفساد.
إن المنصة الجديدة للتعامل مع طلبات شراء العملة والحوالات ومتابعتها حتى أقرب مستفيد أخير، هي خطوات مفروضة علينا من قبل السلطات المصرفية الأميركية، ضمن اشتراطاتها لتزويد العراق بالدولار، لكني اعتقد بأن عقلية متخصصة مثل د. مظهر محمد صالح، وعدد من العقليات الأخرى بخبراتها العلمية والعملية، مدعوة إلى صياغة مجموعة إجراءات تحكم قبضتها على معاملات الصرف والحوالات والصكوك داخل البلاد، ضمن خطوة للحيلولة دون أن تكون مثل هذه الإجراءات مصدرها قرارات مصرفية خارجية، ذلك أن مثل هذه الإجراءات تعني ضمانات لموارد المواطنين من جهة، وضمانة للحيلولة دون هذا الارتفاع المباغت في أسعار السوق لجميع السلع والخدمات، وبشكل أدى إلى شلل النشاط التجاري المحلي، وتزايد معاناة المواطنين.
وبالمناسبة إن الدولار طيلة الفترة الماضية في متناول أغني الأغنياء وبسعر البنك المركزي يحصلون عليه بشتى الذرائع لأغراض متنوعة قليل منها خدمة المواطنين، فيما المواطن ليس له من منفذ سوى السوق الموازي، واعتقد أن بعض إنصاف المواطنين هو أن يعود البنك المركزي إلى تخويل المصارف المحلية بصرف المبالغ التي كانت مقررة الصرف للمواطنين المسافرين إلى الخارج عند منافذ السفر حصراً، ومن أجل ضبط هذا الصرف أن يتم على أساس بطاقة سفر جوية غير قابلة الاسترجاع. فمثل هذا الأجراء يخفف من تعالي “الدولار” على عملتنا الوطنية من جهة، ويحرر المواطنين من مضاربة السوق الموازية.
ويظل المطلوب من العقول المصرفية المختصة أن تسعف البنك المركزي ووزارة المالية بمجموعة من الأفكار العملية التي تؤدي فعلاً لتقليص هالة الدولار من جهة، وفك خانقه عن العراقيين من ذوي الدخل المحدود من ناحية أخرى، وهو موضوع تناوله الباحث الاقتصادي عبد العظيم الخفاجي في “الزمان” بعددها ليوم السبت 17 كانون الأول الجاري، مطالباً بالعمل على إنهاء حالة الدولار كسلعة تداولية يتاجر بها بالمضاربات إطراف عديدة بدلاً من تمويل الصناعة والزراعة والخدمات، كونها وسيلة طفيلية سريعة للربح على حساب بناء اقتصاد وطني غير ريعي، وعلى حساب المواطنين الذين تؤدي مضاربة سلعة الدولار إلى ابتلاع مواردهم المعيشية. وعسى ألا يطول إذلال الدينار مقابل الدولار وليحل ربيع إنهاء المضاربات بالدولار على حساب كل فرص التنمية ولقمة خبر العراقيين وفرص عملهم.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *