إن انفصام الشخصية ، مرض نفسي يصاب به بعض الناس ، فيضطرب تفكيرهم و سلوكهم . والطب النفسي هو الذي يعنى بهذا المرض تشخيصا وعلاجا .

وانفصام الشخصية مرض اجتماعي ، قد يصاب به مجتمع ، فيضطرب تفكيره وسلوكه ، فيعجز عن الأداء الإيجابي المنتظم . و علم الاجتماع هو الذي يجب أن يعنى بهذه الظاهرة .

إن من يمعن النظر في حال أمتنا ، يجد أنها مصابة بهذا المرض الاجتماعي ، وهو سبب رئيس في عجزها عن تجاوز سلبيات واقعها ، و عجزها عن انطلاقتها نحو التقدم كأمة يجب أن يكون لها دورها الرائد في المجتمع البشري و على الساحة الدولية . إن لانفصام الشخصية المجتمعي أسبابا عديدة ، منها وقوع المجتمع في دوامةِ جدليةٍ لم ينجح في إيجاد المخرج الصحيح منها ، فيصاب بالانفصام . و هذا بالتحديد هو ما تعاني منه أمتنا .

اطار ايديولوجي

حين ندرس حال الأمة ، نجد أنها عبارة عن مجتمعات ، جمعها إطار آيديولوجي – ثقافي أضفى عليها شخصية اجتماعية بين الأمم ، و غالب هذه المجتمعات ، تعيش على خلفية تراكمات تاريخية من التراث خارج الإطار الآيديولوجي – الثقافي و داخله . فالمجتمع العراقي مثلا ، له امتداد تاريخي ضارب في القدم لا تزال بصماته مطبوعة على شخصيته ، و ليس من السهل و لا المطلوب ، أن ينفصل وعيه عن ذلك الامتداد التاريخي من التراث منذ انطلاق الحضارة في وادي الرافدين ، و هو في شخصيته الاجتماعية ينتمي الى قيم متوارثة و الى ثقافة دينية شمولية و ملزِمة ، و يعيش الواقعَ العالمي المطبوع بالحضارة الغربية ومعطياتها و منتجاتها ، و يجد نفسه في عربة تحركها عجلات هذه الحضارة في شبه جبرية قاهرة ، و هذه الجبرية خليط بين ما هو مرغوب و ما هو مفروض .

كل تلكم العناصر ، تشكل جدلية قوية لم يتبلور مخرج عملي مقبول منها .

و هذا حال مجتمعات أخرى في أمتنا أيضا . و حتى بعض المجتمعات التي ليس لها ماض تاريخي خارج الإطار الآيديولوجي – الثقافي ، أو ليس لها انشداد مؤثر لذلك الماضي ، فإنها تعيش جدلية قوية بين نمط تفرضه شخصيتها الاجتماعية المتشكلة من مضمون ذلك الإطار الآيديولوجي – الثقافي ، و نمط يفرضه الواقع العالمي الذي تحرك عجلاته حياة الناس . إن الانقسام الذي تعاني منه مجتمعاتنا حول كيفية التعاطي مع التراث و مع المضمون الآيديولوجي – الثقافي من جهة ، و بين النمط الموجود في الواقع العالمي ، قد عمّق المشكلة و زاد في تعقيدها . في أمتنا ، أخفق ( التراثيون ) بالمعنى الشامل ، في تقديم رؤية للخروج من الجدلية قادرة على إقناع الغالبية بها ، و قادرة على تطبيقها بنجاح، و لم ينجح ( الحداثيون ) أيضا في تقديم رؤية للخروج من الجدلية قادرة على إقناع الغالبية بها . لا سيما وأن كلا من التراثيين و الحداثيين لم يسلموا من الانقسام و التضارب الحاصلين في كل كتلة من الكتلتين . أعتقد أن الأمة ستبقى ردحا من الزمن في دوامة تلك الجدلية ، و بالتالي ستبقى في حالة انفصام الشخصية ، الأمر الذي يعني استمرار الاضطراب و العجز ، مع تذبذب في الخط البياني صعودا و نزولا بحسب تراخي قوة الجدلية في بعض الأحايين سواء لصالح التراث تارة أو لصالح الحداثة تارة أخرى في توفيقية هشة أو حسم هش . في الغرب ، إنما استطاعت المجتمعات الغربية تحقيق حضارة فرضت نفسها على الواقع العالمي بعد انطلاق النهضة الأوروبية الحديثة ، لأنها كانت في مجموعها سليمة من انفصام الشخصية المجتمعي ، فلم يقعدها العجز ، إذ استطاع المجتمع الأوروبي أن يتجاوز العقدة التي توقعه في الانفصام ، فوافق في بداية المشوار على الإصلاح الديني و تبنى مخرجاته ، الأمر الذي جعله يتحرر من الهيمنة الكهنوتية ، ثم مشى في مسيرة التنوير ملتزما بفكر التنوير و قيمه ، و سمح للتعددية بمجال مفتوح في ظل الحرية و المساواة ، لتتجــسد إرادة الناس في خياراتهم ، تاركا لسنن التاريخ أن تقرر لأيٍّ يكون البقاء .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *