شعرية أسامة بدر في ديوانه (لا يمكنك الاختباء من الموتى) ليست شعرية الثابت الجاهز، وإنما هي شعرية الأشياء البسيطة الخافتة التي لا يلاحظها أو ينتبه لها الفرد العادي، ولكن يلاحظها الشاعر بفعل التكرار الدوري والتراكم فتلفت نظره، ويستطيع أن يلتقط من هذا البسيط ما هو شعري، أو ما يقدم إيحاء شعريا حين يوضع في سياق قائم على التشابه والتجاور أو الاختلاف والتباين، فيصنع منها مناحي فكرية خاصة ترتبط بجدل الإنساني والشعري، وما يوجبه من صراع أو نزاع أو تماه وتجاوب، في ظل خلخلة دائمة لحدود العلاقة بينهما، وفي ظل محاولة بناء جديدة للشعر وموطنه.
فالشعر في هذا الديوان يتولد من جزئيات سابحة ليس لها صفة الثبات، وتكمن قدرة الشاعر في محاولة التقاطها وإدخالها في إطار شعري خاص به محاولة للاكتمال، ولكنه يظل مشيرا إلى هذه الجزئيات الصغيرة في سموقها واختلافها، وعنفوان وجودها من خلال المقاربة وإعادة المقاربة، بل والمصاحبة والتأمل لفترات طويلة.
الشعرية هنا ليست تعبيرا بسيطا، فهي شعرية مرتبطة بتأمل الحالات بشكل مستمر، وفي كل مرة تمرّ بها الذات بالحالة- أو بحالة قريبة أو شبيهة- يحدث ارتداد لكل الحالات السابقة، وكأننا أمام إطار بنائي كنائي يقوم على دمج تجارب عديدة للحالات التي مرت بها الذات، ويتم معاينة الحالة في ظل انفتاح دائم على التجليات السابقة.
الحركة وإعادة مقاربة الموت
الحركة والنمو في شعر أسامة بدر لا ترتبط بكثرة المناحي الفكرية أو الانتقال من منحى فكري إلى آخر، وإنما تمثل الحركة أو النمو لديه في إدراك الإضافات التي تشكلها إعادة المقاربة المستمرة للموضوع ذاته أو لموضوع يشابهه، ومن ثم حين يقدم شيئا مغايرا أو مختلفا فهو يستند إلى تأسيس سابق ومقاربة سابقة ترتبط به ومشدودة إليه. فالشاعر يقارب المنحى الفكري في تجلياته العديدة استنادا إلى وحدة الجذع الذي يغذي الفروع العديدة، ولكن إعادة المقاربة تشكل استبدالات وانقطاعات وفجوات.
ولهذا يتطلب هذا الديوان وعيا خاصا يجب توافره في القارئ، لأنه بدون توفر هذا الوعي، سيفرّ من بين يديه طائر الشعر، ولن يستطيع الإمساك برهافته، أو سيموت إذا تم التعامل معه بغلظة مسيجة بالجاهز والمحدد. أسامة بدر في هذا الديوان يوقظ حواسك، ويدلك على مناطق غائرة لم تنتبه لها، وإلى صور مجهرية تمر بها في الحياة ولا تستوقفك، ولا تنتبه إليها، وتمر عليها مرورا سريعا، ولكنه يتوقف عندها يقاربها، ويعيد المقاربة مرات، لأن شعره يستند إلى التأمل وإلى تكرار هذا التأمل، ففي قصيدة (صرت نقشا على كعك أمي) يوجه النص الشعري القارئ إلى الغائر البسيط في النفس البشرية، وأن هذا الغائر يحتاج- لكي يتمّ الشعور به وإدراكه- إلى ذائقة اعتادت معاينة طبيعة تشكله من آلية التكرار والمداومة على إعادة المقاربة، فحين يقول(نحاتة عجوز- كل أولادها مسافرون- حين تشتاقهم تنقش وجوههم على الكعك.. وتضحك-ترشهم بالسكر.. وتهديهم للغرباء- في صباح العيد) يستند النص الشعري إلى نسق مررنا به كثيرا، وهو زيارة القبور في يوم العيد حيث تقوم الأمهات بحمل “الرحمة” لتوزيعها على الفقراء بجوار قبور المتوفين من أبنائهن أو أقربائهن، فهذا السطر يحدد ويوجه فعل النص، ويجعله لصيقا بالموت، ويجعل فعل النقش الذي تقوم به هذه الأم على (الكعك) ليس إلا فعل تذكر وديمومة واستحضار، وكأنها بهذا الفعل تستبقيهم بجوارها أحياء، فهو فعل في ظاهره رفض لفكرة الرحيل، وفيه محاولة استعادة، وتأسيس لهذه الاستعادة بالتكرار والمداومة والتوالي.
ولكن القصيدة لا تكتفي بهذا النسق البسيط والمدهش القائم على أسطرة ممتدة، وإنما بداية من حضور فعل المراقبة من خلال عين الشاعر المقارب ينفتح النص على أسئلة وجودية بالرغم من البساطة الخادعة، فتأخذ الأم دلالة أكبر من الدلالة المعهودة بها، ويتوحد الشاعر بالعجين، وتحولاته من الليونة إلى القسوة، لتبدا وتتسرب في النص فكرة النزال والصراع مع الحياة، وفقدان الوجه الحقيقي، ولكن هناك إصرارا على العودة إلى الوجه الأول.
يبدو دال الموت مهما في هذا الديوان، وله حضور لافت بداية من العنوان، ولكن تجلياته تختلف من نص إلى آخر، فغياب الأب لا يعني في منطق النص الشعري في قصيدة(يموت بلا وصية) موتا يجلب حزنا فقط، وإنما يغدو غياب سماء حامية، وغياب أفق يمثل بوصلة للحركة، وإطار معرفة ويقين، حتى وإن كان الإشارات تعطي دلالة مغايرة لتوصيفه للأشياء، ولكن لأنه الأب يتم تجاهل هذه الإشارات، والإيمان برؤيته وتوصيفه. الأب هنا وفق هذا التأويل يتخطى كونه إنسانا، ويتحول إلى الوصاية التي تحوّل كل من يعيشون في كنفه إلى تابعين، يفقدون بمجرد موته الرؤية، وأفق الحركة للأمام.
الموت في هذا الديوان ليس له وجه واحد، وإنما له وجوه عديدة، فهناك الموت الذي نعرف طقوسه دون أن نمر بالتجربة، وهناك صور أخرى للموت مثل الآمال أو التماثيل التي نصنعها لأنفسنا أو لصورنا المتخيلة، وتتم معاينتها عن طريق الحلم. في قصيدة(النبوءة)هناك اتكاء على مساحات الحلم، وارتباطها بالأمل الإنساني، وقد قسم النص بفنية لافتة إلى ثلاث مراحل، الأولى تمثل الحلم/الأمل في ولادته وتكوينه، وارتباطه بالقمر(معادل علو)، وبالضوء حيث يكشف عن تكوين خاص لهذا الأمل أو لهذه الصورة المتخيلة للذات، فهو مضيء وقصي. ولكن الصورة أو المقطع الثاني ينقلنا إلى حالة التحقق، والوصول إلى هذا الأمل من خلال البنت التي ترقص في الأحلام، فهي- لتحققها بوصفها أملا- فقدت كل السمات الدافعة للتوجه والمراقبة، وأصبحت حقيقة واقعية، ولهذا تأتي على حد تعبير النص الشعري(شعرها لا يغطي النهار- ولا يسافر في اتجاه الغروب) فلم تعد أملا، ولم تعد تضيء.
أما التوجه الأخير فهو توجه نابع من طبيعة الحياة الإنسانية التي لا تتوقف عن التعلق بالآمال سواء تحققت أم لم تتحقق، فهي في انفتاح دائم للبحث عن أمل آخر، وإذا لم يتحقق تستمر المطاردة والمعاينة لهذا الأمل.
يكشف النص الشعري في قصيدة(أشتري أحلامي جاهزة) عن آلية لمقاربة الحياة انطلاقا من الموت والفقد والهزيمة، فالأحلام لا تأتي- بالإضافة إلى تكرارها- ولا تتجلى ميثاق وجود إلا في إطار نسق حياة أو مقاربة عودت نفسها- أو عُوّدت- على الطرق والسعي دون جدوى، ومن ثمّ تتعدد الأحلام لتعدد مساحات الفقد، وكل حلم يتمّ تبديله وتغييره طبقا للحالة المناسبة له. وفي نهاية القصيدة تتوّحد الذات مع الحلم، الذات التي فقدت- نظرا لآلية التكرار والهزيمة- نموذجها الحيوي المقترح للتحقيق، وهذا قد يبرّر مؤشرات الفقد في نهاية القصيدة( الأحلام الكثيرة المنهوبة- والبكاء وشاهد القبر الخشبي- ولوحة الاسم) فكل هذه جزئيات صورية تتجلى وكأنها أيقونات، لها فرادة في ذاتها، ولكنها تفلح في بناء اتساق خاص بالموت.
إن هذا الجزء الأخير يكشف عن الاستبدالات والانقطاعات التي تحدث بين موت وآخر، ففي ظل تعدد صور الموت تتشكل هناك وشيجة فالإشارة إلى واحدة منها كفيلة باستدعاء مجموع صور الموت السابقة والآنية، وكأن هناك مجازا كنائيا بين هذه الصور العديدة، تتحرك في إطار معرفي، حيث يشير الآني بحمولاته إلى السابق منطلقا منه، ولكنه لكثرة الارتحالات لا يبقي على حدوده، فينمو ويتحرك في سياق مباين. فالصور الارتجاعية الثلاثة الأخيرة (الآمال المنهوبة- البكاء…- ولوحة الاسم) صور متجاوبة تتداخل فيما بينها، ولكن كل واحدة منها لها فرادة في التشكل والتجربة.
كنايات الظل
في الشعرية المعاصر وخاصة في قصيدة النثر لا شيء محدد أو مؤسس، ومن ثم تظل عملية التأويل المبنية على الفهم أصعب الموضوعات في ظل البحث عن فهم أو تأويل أقرب للقبول، وفي ظل سيادة شعرية مهمومة بمزج العوالم والتشابهات والتباينات. ففي قصيدة (حين لم أكن بالمنزل) سيظل المتلقي مشغولا طيلة المقاربة والتلقي بدلالة الملاك، ولن يستطيع أن يلم فحوى الدلالة إلا مع السطور الأخيرة حين تتكشف لنا طبيعة الملاك، وتبدو شبه واضحة، وذلك حين يقول(عندما طار الملاك من شباك الغرفة- معلقا في قدميه حمامة- كنت أربيها للغناء) فالغناء والحمامة كلمتان كافيتان لتوجيه دلالة الملاك إلى الشعر الذي يأتي ويهبط وينفذ ولا تنطبق عليه قواعد البشر، ولا يلتزم بأعراف وتقاليد ومحددات، ويتوحد بالإنسان المعذب، لكنه لا يقاسي ما يقاسيه لانفلاته من المحدودية البشرية، وله سطوة واضحة في تحريك الجسد المادي، وتحديد أفق التوجه.
وربما يكون التشابه الظاهري بين صورة الملاك في المخيال العربي بجناحيه الشبيهين بالطائر قد أدى إلى هذا الربط في نهاية القصيدة، فكلاهما يحط فجأة على الأرض، وسرعان ما يطيران- بوصفهما حلقة وصل بين فضاءين- علوي وأرضي- مرفرفين بجناحيهما مخلفين بقايا رماد الاشتعال.
ومن خلال الصورة السابقة التي تشكل مرتكزا ينزاح الإبداع الشعري من خلال التجاور أو الفعل والانفعال عن طريق الكناية المعرفية ليتوجه توجها مغايرا، ولكنه يظل يشير إلى الصورة الدلالة الكنائية الأولى التي استند إليها، وتطوّر بعيدا عنها، يتجلى ذلك في قصيدة(جريمة أخرى) حيث تتأسس الفاعلية على حركتي الهبوط والطيران من محددات النمط الصوري أو الأيقونة لصورة الشاعر، ولكنها تتوجه بشكل خاص إلى منحى يرتبط بالتغييب الذي يحدث له إحياء كلما أطل مثير يعيده لبؤرة الوجود والتركيز، حيث يقول:( الطائر الذي مرّ منذ عشر سنين- وأنا أفتح النافذة- دون أن يلقي عليّ تحية الصباح-ارتكب جريمة أخرى-إذ علّق في منقاره بحرا- وقام عمدا برشه هنا-هنا- حيث خبأت جرائمي الصغيرة- العادية جدا- هذا المجرم لا يفهم- ماذا قد ينبت له فجأة).
تتشكل صورة الطائر من محدَّد سابق يشير إلى الملاك، ولكن الجديد هنا في النص الشعري الانفتاح على ارتحالات وثيقة الصلة بالإبداع الشعري، وبداية ظهوره، وتأسيسه من دال البحر الذي يشير من خلال ملوحته-فيما يمكن أن يشير إليه بالإضافة إلى المجهول وعدم المعرفة- إلى صورة أنثى تفرض وجودها الدائم من خلال ابتعادها المادي، فتتحول إلى خبيئة مختزنة تطل وتتوحد من بداية النص الشعري بالطائر في هبوطه، وتظل مشكلة الرؤى في حضوره، وتترك رمادها بعد رحيل اشتعاله.
في تشكيل الظل أو الشاعر تستند نصوص أسامة بدر على مجموعة من الكنايات المعرفية التي تتكاتف فيما بينها لتشكيل إطار خاص، لأن كل كناية معرفية من هذه الكنايات مشدودة إلى مجال دلالي محدد، وحين توجد –بالضرورة- وتوضع في سياق شعري يوجهها توجيها جديدا تظل مشيرة إلى وجودها السابق بالرغم من سياقها الجديد كاشفة عن التعدد داخل الوحدة، فالكنايات المعرفية للظل أو الشاعر تتعدد في هذا الديوان، منها الطائر، والملاك، والنبي، والظل المادي بوصفه كيانا غير مدرك للجسد ولكنه موجود لحظة الضوء والنور.
ويبدو أن الفاعلية في قصيدة النثر لهذه الكنايات المعرفية القائمة على التأمل والاختزان وعقد المشابهة وزلزلة الترابط الزمني للوصول إلى الترادف في إطار مستوى معرفي أكبر، فحين يقول الشاعر في نصه(مثل أمي):(حين تلعبين الحجلة- تحجلين قلبي بقدم واحدة- تدفعين أيامي أمامك- وترشين الأبيض على رأسي) فندرك من جهة أولى أننا أمام كناية معرفية تمّ تأسيسها في نص (صرت نقشا على كعك أمي)، تلك الأم التي تداوم وتستبقي أمواتها من خلال نقش ملامحهم على الكعك، ورشها بالسكر صبيحة العيد.
ومن ناحية ثانية نجد النص الشعري يؤسس- بالرغم من حضورها الدلالي الأولي- كناية جديدة تنزاح عنها قليلا للإشارة إلى تكرار دوري، وإلى محاولة إجابة عن أسئلة معرفية ترتبط بالحياة والوجود. فالمنحى المعرفي- أو دلالة الكناية ارتباطا أو انطلاقا من تأسيس جزئي سابق- مهموم بمعاينة الفعل واستمراره، ومن ثم يفتح الباب لعقد مشابهة بين الأم والابنة، فإذا كانت الأم قد قامت بهذا الفعل مع أبنائها الراحلين، فإن البنت- بالرغم من كونها ما زالت في مرحلة الطفولة بما يجاوبها من لعب الحجلة- مؤهلة للقيام بهذا الدور.
ولا يقف النص الشعري عند هذا الحدّ القائم على اكتناز الكيانات والإحالات والانقطاعات، ولكنه يأتي من خلال التمدد التركيبي إلى صور تظل على فاعليتها وحضورها تخص الأم، حيث تنقل بحذافيرها للدلالة على طبقة معرفية وإتمام عملية التماثل الكنائي بين الأم والحفيدة بداية من(الأميرة في بيتها الطيني)، ومرورا(بكثرة الأولاد – ووجع الظهر)، وختاما بقوله:(توزّع البهجة مع كعك العيد- وتلبس ثوبها الذي تخبئه للعيد حتى يبدو جديدا).
ما يحدثه النص الشعري في باب استخدام الكناية المعرفية يتمثل في الاختزان والنقل والاستبدال الكنائي، حتى تتمّ الإزاحة، وتحريك الصورة باختزالاتها الدلالية، ووضع الصورة الجديدة مكانها، على حد تعبير النص الشعري( أحرّك يدي في الهواء –لأمحو الصورة- أغمض عينيّ أكثر- فأراك مثل أمي).
في ظل حضور لافت لآلية الكناية المعرفية نستطيع أن نتوقف عند وصف (المجرم)، في قصيدتي (جريمة أخرى)، و(أطارد وجهي في المدينة) مستندين إلى متخيل ذهني كنائي يكشف عن الخروج عن القانون والمخالفة، حيث تتحدد له ملامح واضحة جاهزة. ولكن النص الشعري الأخير- في تشكيله للظل معتمدا على الكناية المعرفية المؤسسة بوصفها نموذجا أوليا له دلالة ثابتة- يزحزح هذه الدلالة معتمدا عليها في آن للإشارة إلى أن هناك نوعا من المغايرة والنزاع والاختلاف بين الإنسان-كائنا من لحم ودم- ووجهه/ الظل/ الشاعر.
يأتي الأول مسيجا بالأعراف والتقاليد، فيصبح مدجنا بالقيود غير قادر على الفعل والتأثير، ولكن الآخر- ذلك المجرم- لا يلقي بالا لهذه الأعراف والتقاليد، فحركته نابعة من الحرية، ومن القدرة على الطيران والتحليق. فالكناية المعرفية التي تستند إلى مخزون دلالي ثابت تظل طوال الوقت مشدودة إليه، ولكنها في تشكلها الجديد تغيّر بالتدريج في مؤسسات ومحددات النمط القديم من خلال الصفات التي يتم إسدالها، ومن خلال الصور التي تتجلى بعيدا عن الأعراف والتقاليد بقيودها المعهودة.
يبدأ تشكيل هذا المجرم- في نوعيته الخاصة- من الصراع في قوله(المجرم أيضا قد يقابل فتاتي صدفة-فتدعوه “حبيبي”-بالطبع لن أتهمها بالخيانة- ولن أندهش لو قبلته- سألتمس لها أعذارا جمة). فالجزء المقتبس السابق كاشف عن الثنائية التي ألمحنا إليها سابقا، وكاشف- أيضا- عن صراع هادئ به بدايات التوحد بينهما بعيدا عن فعل النزال مع الواقع الذي يهشم التوحد بالتدريج، ويجعل طبيعة الاختلاف منطقية، لأن الواقع لا يستجيب بسهولة لمحددات الظل المنطلقة من أفكار أو رؤية مثالية.
ولكن هذا التوحد- توحد البداية والميلاد قبل النزال- سرعان ما يكشف عن تنافر بداية من الصور الجزئية الكاشفة عن الفعل والانفعال( بالأمس وجدت جثة على سريري- من تلك التي يتركها الغرباء عادة- كانت بلا وجه).
إن فقدان الوجه هو فقدان للظل ولسموقه وفاعليته وتأثيره، ومن ثم يحدث الانفصال، ويبدو الوصول إليه- أو حضوره-جزئيا على فترات متباعدة لإحداث نوع من الانسجام اللحظي قبل تركه للتشرد والعراء، وما يشيران إليه من حالة من حالات عدم الاكتراث بالأعراف المعهودة( أطارد النهر في أوردة المدينة- فأجده يجلس كمشرّد- يبحث في كومة مليئة بالوجوه- حين انتبه لي- سألني: أنت أيضا فقدت وجهك؟).
هناك إلحاح من الشعراء السابقين في تصوير ذلك الصراع، بداية من سعدي يوسف في ديوانه الأخضر بن يوسف على وجود الازدواجية في آن واحد وفي ذات واحدة، بحيث يظل الشاعر كائنا شبحيا ذا فاعلية، ويلح آخرون على رمز قابيل وهابيل- كناية الشقيق- ابني آدم، ويأتي قتل قابيل- الإنسان في ظل ذلك الفهم- ضرورة فنية، لكي يطل هابيل- الشاعر- في إطار تلك الثنائية.
استند الشاعر أسامة بدر في قصيدة من قصائده على تلك الفكرة أو الكناية، فالقارئ للديوان يدرك أن لديه وعيا تاما بالفكرة، ويهذه القصائد وتلك الدلالات، فنراه يبني استراتيجيته على الفاعلية والنفاذ للظل، ويعطل وجود الإنسان، وذلك من خلال الاتكاء على فكرة (التوأم) الموجودة والمستقرة في الذهن. ولكن الكناية المعرفية الجديدة استنادا إلى المؤسس السابق تحدث تغييرا في منطلقاتها من خلال المقارنة بين الحضور والغياب، والفاعلية والتأثير من جانب، والسكون وعدم القدرة على الفعل من جانب آخر.
حين نتأمل قول الشاعر في نصه الشعري(يا مولاي كما خلقتني):(أنا يا مولاي كما خلقتني- ولد عالق في مشيمته- معلق في حبله السري لم يزل- أخطأته القابلة- وأخرجت ظله إلى الحياة) ندرك أن هناك منحى فكريا يتأسس، في ظل وجود الثنائية، للإشارة إلى قسيم له ملامح إنسانية يعيش كما يعيش البشر، ولكن بداخله ظلا يمارس فاعليته وتأثيره بداية من الصور اللافتة الكاشفة عن هذا التوجه( خباز- أخبز الأحلام- أمررها للمنازل في المساء)، ومرورا بالجنيات التي يقوم بتربيتهن، وانتهاء بوجود الفاعلية واضحة من خلال قوله في نهاية النص:( وحين اصطاد شجرة ألقيها للنهر- ليصنع شطآنا جديدة- أوزّع أفراخ الغمام على رؤوس الحقول).
فالارتحال للكنايات هنا من كناية الشقيق في تجليها القديم، أو من الجزئي الكاشف عن التماثل إلى إطار كنائي خاص للكشف عن استبدالات دلالية موحية بالمغايرة والاختلاف، يشير إلى هذه المغايرة كانت سببا في تغييب قسيم، ووضع آخر في بؤرة التركيز والفاعلية، بالإضافة إلى تجذير فكرة الإيمان برسالة الشعر والثبات على منطلقاتها الأساسية.
يؤيد هذا الفهم وجود قصائد لها التوجه نفسه في الديوان، مثل قصيدة (نبي تائه)، وفيها –وربما في نسق كبير من قصائده الشعرية في الديوان- يصر على وجود مساحات التداخل بين الشاعر والنبي، في بحثه عنه للارتباط والاحتماء برؤيته(هاتان العينان ليستا عيني نبي- إنهما عيناي تدحرجتا مني حين كنت أبحث عنه). وحين يشير النص الشعري بداية من العنوان(نبي تائه)، وإلى (الجب) في المتن الشعري، فإن هناك دلالات ترتبط بالتيه، ثم بالوصول، وفي النهاية إلى التوحد. وسوف يتمدد التأويل هنا ليأخذ مساحة أوسع، فالشاعر غير المحدود بإطار جسدي، لا يتحقق طوال الوقت مع الجسد، فهو يتجلى في شكل تنوير كاشف، ويكوّن حضوره ظلا ما.
ففي نص(عصا الراعي) الذي يكشف عن مكانة خاصة، ويكشف عن قداسة منطلقة من بساطته وعاديته يسوس الدنيا والحياة، نجده يقول:(حين سألته عن الطريق- قال: اتبع ظلك- ثم ألقاني في العتمة- حيث لا ظل لي) فالراعي هنا إشارة إلى قدرة توجيه وتحديد ومعرفة، هذه القدرة التي يمنحها للسائلين. والظل/ الشاعر حين يسيطر يتولد صراع دائم في الذات المسكونة بذاتين: ذات اجتماعية، وذات لا تلقي بالا لهذا التحديد، وهي الشاعر، ومن ثم جاء الخطاب المعرفي من الراعي بالسير وراء صورته، وحركته العارفتين والنافذتين إلى لب الأمور.
من ضمن منطلقات الديوان الأساسية صورة الشاعر والكيفية التي يقارب بها الكون والحياة، وإذا كانت بعض النصوص قد أبرقت شعريا عن بقايا قداسة في تلك الصورة، فإن الشاعر أو الظل في هذا الديوان ظل مرهق متعب، وبالرغم من وجود هذا التعب وهذا الارهاق إلا أنه يقارب الحياة بشكل مختلف، فهو شبيه للآخرين، ولكن نظرته ومقاربته تسدل نوعا من المغايرة، تتأسس آلية وحدود هذه المغايرة من طبيعة التعامل مع الاخرين، والانفتاح على المنكوبين والمتعبين والارتباط بهم كما في قصيدة (معادلة)، فالانسلاخ عن الأصل العلوي لم يثبت له مشروعية اختلاف، فهذه المشروعية قائمة على التذكر.
فاعلية هذا الإطار الذي لا يخلو من قداسة لا تتجلى بالارتفاع أو الانعزال، وإنما تتوسد وتتشكل في حياة الناس، وفي التأثير في ارتباطهم بالوجود، على نحو ما يظهر في نص(الإرهابي صانع الفطائر)، ففي هذا النص تتجلى الذات الشاعرة وهي تقارب الحياة وفق منطق شعري، فالسيادة والفاعلية للشاعر، ويحدث- لحظتها- تغييب متعمد لملامح الإنسان، بل يتجلى- حتى نكون أكثر دقة- في نصوص الشاعر نوع من التحول فيصبح حضور الشاعر أو فاعليته هو الحياة بكل دفقها، ويصبح غيابه أو انضواؤه لحظة تساويه مع البشر هو الموت.
فالشعر هو الروح الحية والعين البصيرة التي تراقب وتقارب الحياة بكل تجلياتها وتفسخها، على نحو ما نرى في قصيدة (رأيت نفسي حيا)، حيث يطل الشاعر فاعلا، وتتجلى رسالة الشعر في حضورها وقدرتها على الغناء للبسطاء ومنكوبي العالم:(انتبه- يبدو أني صرت حيا من جديد- جهّز ميدانك- أطلق الحنين كالدروع-ودعْ نساءك يغنين للغرباء- وأنا سآتيك وحدي- بلا يد جبانة تصافح الأحياء-ولا قلب مجرم- أو عين تائهة في العتمة) فالشعر هنا يتوحد بالقيم الإنسانية الكبرى والمفاهيم التجريدية كالعدل والحب.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *