شهد العالم خلال العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة تغيرات كبيرة ومتسارعة ساهمت في تعرّض الأجيال المختلفة لظروف وخبرات متباينة، مما أدّى إلى اختلاف منظومة القيم والتوجّهات بين الأجيال القديمة والأجيال الجديدة، وبالتالي حدوث فجوة كبيرة لم يكن من السهل ردمها، بل كانت تتنامى وتتّسع وتكبر وتتعمّق.
والفجوة الجيلية في كل مجتمع ومنها مجتمعاتنا العربية ذات مستويين، أحدهما – رأسي أو عامودي (بين جيل الكبار وجيل الشباب)؛ وثانيهما – أفقي، وذلك على مستوى كل جيل، خصوصًا بالتباين بين الفئات العمرية التي تندرج تحت أحد الجيلين بشأن القيم والتوجّهات.
توجيهات مشتركة
يرتبط مفهوم الجيل بالقيم والأفكار والتوجهات المشتركة من خلال وعي عام أساسه الشعور المشترك بالانتماء والترابط والتضامن، مع الأخذ بنظر الاعتبار ظروف النشأة والتجارب والخبرات، لأفراد من الجيل العمري، حتى وإن كانوا لا يمثّلون وحدة اجتماعية متشابهة أو متطابقة. وتحدث الفجوة الجيلية بسبب التباين والاختلاف والتباعد بين أفراد ينتمون إلى جيلين مختلفين، فكرًا ورأيًا وقيمًا وتوجّهًا في المنظور الثقافي والسياسي والاجتماعي وفي السلوك والتوجّهات. وهناك من يحدّد الفترة الفاصلة بين جيلين ما بين 15 و20 عامًا. ويقوم مفهوم الفجوة على ثلاث فرضيات:
الأولى – اعتيادية، وهي الإختلاف في العمر البيولوجي بين أجيال تنتمي إلى مجتمعات منقسمة في الخبرات والتصوّرات.
الثانية – هويّاتية، أي أن هناك وعيًا جمعيًا لكلّ جيل، وهذا يكسبه نوعًا من التضامن بين أفراده مقابل الجيل الآخر.
الثالثة – سلوكية، فسلوك الأجيال الأصغر سنًا وتوجهاتها واهتماماتها مختلفة عن الأجيال الأكبر.
وثمة علاقة جدلية بين الفجوة الجيلية والهويّة، خصوصًا وقد أخفقت العديد من المجتمعات ومنها مجتمعاتنا العربية من استيعاب الجيل الشاب في إطار هويّة جامعة، وقد أدّت تلك الفجوة إلى تعميق الخلاف بشأن الهويّة ومفهومها، وحين يتعمّق هذا الخلاف ويتّسع يتحوّل إلى صراع حاد أحيانًا، يُضاف إلى الصراعات المجتمعيّة القائمة.
تحدث الفجوة بين الأجيال بمدى تقبّل أو عدم تقبّل كلّ منهما للقيم الثقافية المتباينة بين الجيل الأكبر والجيل الاصغر، خصوصًا في ظلّ المتغيرات الاجتماعية والأحداث السياسية التي ينظر كل منهما نظرة مختلفة إليها. وإذا كان هذا أمر يمكن لحاظه قيميًا وسلوكيًا باختلاف الفئة العمرية، فإنه أصبح عاصفًا في السنوات الأخيرة، محدثًا تغييرات جذريّة وعميقة بفعل العولمة، حيث هيمنت وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية “الديجيتال” وثورة المعلومات والاتصالات واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي على الجيل الجديد، والتي أدّت إلى اتساع الفجوة على نحو هائل في السنوات الأخيرة. علمًا بأن هناك اختلافًا داخل كل جيل أيضًا، وليس بالضرورة هناك قيم موحّدة وسلوك موحّد بسبب اختلاف المصالح الطبقية والاجتماعية.
جيل أول
وتستطيع المؤسسة الثقافية الناجحة أن توازن بين الأجيال، مدركةً الأثر النفسي عليهم ووقع ذلك على نشاطهم ومستقبلهم، بما ينعكس عليها باستيعاب ما هو ممكن ومتواصل ومستمر بين الجيل الأول الأكبر وبين الجيل الذي يليه الأصغر، بحيث تكون بيئة حاضنة ومتفاعلة بما تملكه من معرفة ورؤية وخطة متجدّدة، تأخذ بنظر الاعتبار ظروف الجيل الأول وثقافته تفاعلًا مع الجيل الثاني وتطلعاته، وذلك بالتقليل من جوانب الصراع والبحث عن المشتركات.وتبقى مسألة التباين بين الأجيال إشكالية في العديد من المجتمعات البشرية، وخصوصًا في المجتمعات النامية ومنها مجتمعاتنا العربية، الأمر الذي يفرض على الجميع التعامل معها من خلال علاقة سويّة تقوم على تفهّم ما يريده الجيل الجديد وتطلّعاته المستقبلية، في عصر العولمة ومفاعيلها التي لا غنى عنها. ولا شكّ أن التواصل بين الأجيال والثقافات والحفاظ على هويّة موحّدة إنسانية مسألة مهمّة في ظلّ تحدّيات الثقافات الوافدة أو المتغلغلة بوسائل ناعمة دون أن يعني ذلك الانعزال، مع أهميّة التفاعل مع ما هو كوني وإنساني، والهدف هو تقليص الفجوة بين الأجيال.
ويمكن أن تلعب البرامج التربوية والدراسية للنشء الجديد دورًا على هذا الصعيد، وكذلك المؤسسات الإعلامية والدينية ومنظمات المجتمع المدني في البحث عمّا هو جامع والابتعاد عمّا هو مفرّق مع الأخذ بنظر الاعتبار الأساليب الحديثة لرفع الوعي وإحداث نوع من التوازن لكي لا تتعمّق الفجوة الجيلية وتتحوّل من جدل بأفق مستقبلي إلى أزمة وصراع مجتمعي؛ ولعلّ الحاجة إلى مشروع نهضوي حديث وتدرّجي يبدأ من الطفولة مرورًا بمرحلة الشباب، مثلما يتطلّب حوارًا هادئًا وهادفًا لمواجهة التحديّات والمشكلات المتعلّقة بالجوانب الإنسانية، ابتداءً من الأسرة إلى الصحّة والعمل والضمان الاجتماعي والثقافة والفنون والآداب وكلّ ما يتعلّق بقواعد السلوك الإنساني التنموي المستدام الذي يستند إلى” توسيع خيارات الناس” و”تلبية احتياجاتهم الأساسية” و”تحسين ظروف حياتهم”، وذلك مراعاة للخصوصية مع احترام للقيم الكونية.
لعلّ مناسبة هذا الحديث هو مداخلة قدمها الكاتب في ندوة أقامها منتدى الفكر العربي بعمان والموسومة “دور المؤسسات الثقافية العربية في التواصل بين الأجيال”.