(كثيرون حول السلطة وقليلون حول الوطن)

الوطن، يا له من كلمة جامعة وواسعة، إنه الهوية والرمز والإسم والعنوان، والمقدمة والمتن، والواقع والحلم، والتاريخ والحاضر والمستقبل، هو المكان والزمان، هو العَلَم والنشيد والشريان والوريد، هو الذي يحدُّنا من الوريد إلى الوريد، وهو الحنين والركن الركين والحصن الحصين، وهو الخير والبركة، وهو المال والولد، أغلى من الروح وأعز من الولد، هو المنشأ والمقر والمستقر، والوضّاح والأغز، وهو الولاء والانتماء، والشرف والغيرة، فتحنا عيوننا فإذا بالوطن ينظر إلينا بعاطفة لا توصف فأحببناه، ونشأنا فيه وتعلمنا في مدارسه وانخرطنا في عشقه بالفطرة التي خلقنا الله عليها، ونظل هكذا حتى الرمق الأخير، وتصول المعاجم اللغوية وهي تبحث في معنى الوطن ومفهومه وتجول، فتقول: الوَطَنُ مكانُ إِقامةِ الإِنسان وَمقَرُّه، وإليه انتماؤه، وُلد به أَو لم يولد، ويُقال: وطَن فلانٌ بالمكانِ :أقام به، سكَنه وألِفه واتَّخذه وطَنًا، وأَوْطَنَ الأرض ووَطَّنَها واسْتَوْطَنَها واتَّطَنَها أي اتخذها وطنا، والوَطَنُ الأمُّ: الوطَن الأصليّ، وَوْضع الولادة، ووَطَن المولد، ويبقى الوطن أكبر من كل التعريفات التي حاولت تقديم تعريف له، وأكثر عاطفية من كل أبيات الشعر التي حاولت أن تحيطه بعاطفتها.

رغيف خبز

قال هوميروس: ليس اعذب من أرض الوطن، وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل، فانظر كيف شوقه إلى أوطانه وتشوُّقٌه إلى إخوانه، وقال غازي القصيبي: الوطن هو رغيف الخبز والسقف والشعور بالإنتماء والدفء والإحساس بالكرامة، والشعراء أبدعوا في التعبير عن الوطن وحبه، فهذا ابن الرومي يقول:

ولي وطنٌ آليتُ أنْ لا أبيعَ

وأنْ لا أرى غيري له الدَّهرَ مالكا

وهذا أحمد شوقي يقول:

وطني لو شُغلتُ بالخُلدِ عنهُ نازعَتني إليهِ في الخلدِ نفسي

ويقول محمد الماغوط:الوطن: حلم الطفولة، وذكريات الشيخوخة، وهاجس الشباب، ومقبرة الغزاة والطامعين، والمفتدى بكل غالٍ ورخيص.

ولا بد أن يكون الوطن مهابا عزيز الجانب، رافلا بالعزة والشرف الرفيع، والوطن يُهان عندما يكون محتلا، وعندما تقوم ثلة خارجة عن حب الوطن وممن يسمون بأبناء الوطن بمعاونة المحتل على الإحتلال وإذلال الوطن ومواطنيه، ويُهان الوطن عندما يسرقه أبناؤه، ويعبثون بثرواته، ويمتصون دماءه، وعندما يخونه أبناؤه فيكونون خدما للغير وعونا لهم وأداة في أيديهم وطريقا ممهَّدا لهم للعبور إلى أسراره وأسواره.

وأتمنى في الختام أن يكون القوم بالوطن واحدا في السِّرِّ والعلنِ، لا كما قال الرصافي:

لا يَخدعَنكَ هُتاف القومِ بالوَطَنِ فالقومُ في السرِّ غير القومِ في العَلَن

وأن يكون الجميع حول الوطن، لا كـــما قال المهاتما غاندي:

(كثيرون حول السلــــــطة وقليلون حول الوطن).

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *