السنونو الطائر الرقيق والجميل والصغير بحجم نصف كف ، يتلازم في مظهره مع مشاعر الحزن ، هذا ما اكتشفته عند معدان الاهوار يوم كنت معلما في واحدة من قرى الاهوار ، والنساء يعتقدن انه بسبب سواد لون ريشه يرتدي العباءات السود مثلهن . وبعضهم يسميه الطائر ابو عباءة .وهو يأتي الى الاهوار والجنوب العراقي مهاجر ومن دون حقائب ونأشيرة جواز السفر في فصل الشتاء قادما من مناطق اوربا الباردة .
وبسبب عتمة السواد في ريش هذا الطائر والحزن الغريب الذي يصبغ ملامحه ونظرته يسميه اهل الاهوار والجنوب (العلوية) ، والعلوية دالة لانتماء المرأة الى النسب المحمدي ، واغلبهم حين يرى السنونو يستعيد اسمها الروحي ويتخيل مأساة العلوية زينب اخت الحسين ع في محنة كربلاء ، وابنة اخيها رقية والبقية الباقية من السبايا اللائي ينتسبن الى ذرية محمد (ص) وعلي (ع).. لهذا فأن الكثيرين يعتقد ان صيد السنونو اما ان يكون حراما او غير محببا لهذا فهي لا تشوى ولاتأكل .
عاشت السنونو في ذكريات المكان ، وهي تعيش حضورا تصنعه فصول الدفء ، وربما هو الطائر الوحيد الذي رغم تعظيم الناس لدالته وحضوره ابقى نظرته الحزينة وفضل ان يبقى معلقا على اسلاك الكهرباء في المدن الجنوبية ، قبل ان يبدا آخر محطات رحلته حيث غابات القصب والماء ،ولكنه ولغريزة ما سرعان ما يغادر تلك الامكنة ليعود الى المدن ، وكنا نراه في شوارع مدينة الجبايش والناصرية والفهود وسوق الشيوخ اكثر مما نراه في اهوار .وكان البعض منا يعتقد انه قد لا يجد غذائه في اهوار اذ لا يستطيع منقاره من اكل سمكة ولا توجد حقول حنطة ،وان المدن قد توفر له من فضلاتها غذاء كثيراً .
رؤية السنونو
ولكننا مع كل هذا كنا نمتع صباحتنا برؤيته ، فبالرغم من مساحة السواد على بدنه إلا انه كان طائرا هادئا وجميلا والبعض منا حين يعيش متعة رؤية السنونو يتذكر بهجة الاماني في السفر والعيش في المدن الاوربية التي جاء منها ، فيرد البعض :هو جاء هاربا من البرد وانتم مع البرد تتحولون الى ( موطا ام العود ) .
نضحك ونرفع له ايدينا ونحن نؤدي التحية فتاتي نظراته متوسلة ان نجعله يعيش بأمان وان نمنع تلاميذ المدرسة ان يرموه بحجر .
اتذكر ان اهل الاهوار كانوا يصيدون الزرازير ( البعيعي ) بكميات كبيرة وبالشبك ،وكان يأتي مهاجرا وبالتزامن مع هجرة السنونو ، وكان الصيادون يجدون بين الزرازير التي يصيدونها اعدادا ليس قليلة من طيور السنونو قد وقعت في الشبكة فيطلقونها في السماء ثانية ويهمسون اليها :انت علوية فلا يصح اكلك او ذبحك . وكنت اشعر أن الزرازير كانت تغار من السنونو وتعتبره طائرا مدلالاً .
الآن بسبب العطش اختفى الاثنان من مناطق الاهوار ، لا الزارزير ولا السنونو . فلم نعد نراهم لا بحقائب ولا بتأشيرات سفر ، ولا من دونهما ، لقد تغيرت طوبغرافيا المكان وبيئته ،ومع شحة الماء اتت الرسائل الى تلك الطيور وهي في اوطانها ان المشاتي لم تعد المشاتي التي كانت لأن سدودا كثيرة اقيمت في اعالي الفرات ودجلة ولم يعد بالإمكان ان تملأ الاهوار بالمياه ، فجف المكان وبدأت رقاب الجواميس تنتحر بسكاكين العطش او القصابين.
اشعر بالحزن ان طائر السنونو لم يعد موجودا ولم تتم مشاهدته في تلك الاماكن . وذات يوم قبل عام كنت مدعوا في امسية ثقافية لأخوتنا المندائيين في مدينة اولترخ الهولندية بمناسبة اصدار طبعة جديدة من كتابهم الروحي الكنز ــ ربا . وكان عليَّ ان اسير بقدمي من محطة القطار الى قاعة الامسية القريبة عندما صادفني صفا جميلا من طائر السنونو معلقا على الاسلاك وبدون وعي سألتهم :لماذا لا تذهبون الى هناك ايتها العلويات .؟
نظرتهم الحزينة ردت بصوت واحد : لا نريد ان نموت من العطش.