كان ( طويلب فاهي نعمة ) أطول تلميذ في المدرسة وفي الصف الرابع في مدرستنا التي لا تحتوي سوى اربعة صفوف ، من الاول حتى الرابع ، وكان التلاميذ يسمونه ( السليت ) وتعني بالعامية الطويل ــ النحيف ، وكنت اشعر برهبة ان يكون التلميذ أطول من معلمه حين اطلب منه ليذهب الى السبورة ليكتب جملة تتكون من مبتدأ وخبر فقط ، وفي كل مرة كان لا يكتب سوى هذه الجملة ( الجاموسة جميلة ) ، يكتبها ويبتسم ثم يعود ليجلس في مكانه ، والحقيقة اني في واحد من أمثلتي امتلكتني رغبة غامضة لأكتب لهم مثلا في المبتدأ والخبر لا علاقة له بعالمهم وما يعرفوه ،وجملة المبتدأ والخبر تقول : الموناليزا جميلة .ولأنهم لا يعرفون الموناليزا فهم يتهيبون من كتابة اسمها او حتى نطقه ، ومتى أردت منهم أمثالا للمبتدأ والخبر يختارون أسماً غير الموناليزا ، حميد يكتب أمي جميلة ، ونويظم يكتب قريتنا جميلة ، ومارد يكتب : الشختورة جميلة ، وعريمش يكتب : المدرسة جميلة . وحده طويلب يكتب الجاموسة جميلة .ذات يوم أردت ان أوقف طويلب عن تكرارا كتابة هذه الجملة ، وحتى لا يكتبها في دفتره الامتحاني نهاية العام . فجلبت مجلة غلافها صورة الموناليزا وناديت عليه الى ساحة المدرسة بعيدا عن عيون التلاميذ وقلت له : طويلب هل تريد ان ترى الموناليزا ؟

فرد ضاحكا : الجاموسة أستاذ ؟

قلت : نعم الجاموسة . تلك هي .واريته الموناليزا المرسومة على غلاف المجلة .انبهر طويلب بذهول غريب ، شعرت به انه يرتدي دشداشته المقلمة والممزقة من أذيالها ويقف الآن في متحف اللوفر متسمرا بذات لحظة الذهول هذه وأمام اللوحة وهو يتخيل كيف رسمها دافنشي ، ولا اعرف لماذا أحسست بأن مشاعر التلميذ طويلب الذي لم يغادر قريته يوما واحدا يحمل ذات غموض المشاعر التي حملها الرسام الإيطالي وهو يرسم موناليزاه .سكنه ارتعاش والارتباك وبدون ان ينطق كلمة عاد مسرعا باتجاه القرية ولم يذهب الى الصف بالرغم من ان دوام المدرسة لم ينته بعد .ومن لحظتها شعرت أن طويلب يتمنى ويريد ان يحشر االهند تقود إجتماع وزراء خارجية

لموناليزا في اي جملة اطلبها منه كمثل . يوم تطوع اطويلب في الجيش كنت ادرك جيدا انه سيبحث عنها بعيدا عن غلاف المجلة وربما يفعل شيئا لم يفعله المعدان بحياتهم منذ سلالات سومر والى اليوم وهو عندما تأتيه بنت سيطلق عليها اسم الموناليزا ، وهو ما اقدم عليه بالفعل حين ولدت زوجته بأول أبنائها ، لكن الزوجة رفضت ،وكذلك امه وأبيه ، ولكنه اصر على ذلك ، ومع إصرار اطويلب وعناده ،جاء والد زوجته في الصباح ليأخذ ابنته من بيت زوجها ، وهو يقول لزوج ابنته :انت تريدنا ان نكون مضحكة بين المعدان . وابنة ابنتي اسمها من الآن فخرية ، فأن رضيت بهذا الاسم :تعال خذها هي وأمها .لكن طويلب بعناد غريب ابقى إصراره على موقفه ومرت سنوات ولم يطلب من زوجته لتعود حتى موته شهيدأ في جبهة قصر شيرين ، وبعده ماتت زوجته بدون ان تعود الى طويلب ، وفخرية كبرت وهي تعرف قصة أبيها مع أمها ، وحين كانت تراجع على معاملة ابيها كشهيد حين يطلب منها الموظف اسمها تتمنى ان تقول له اسمي موناليزا .

ويوم تقدم ابن عمها لخطبتها ، كان شرطها الوحيد ان أنجبت بنتا تسميها الموناليزا .لكن الخطيب رفض وانسحب من خطبته لابنة عمه وهو يقول : لن أكون مجنونا مثل والدكِ المرحوم طويلب.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *