لفتَ انتباهي حديثٌ للسيد حسين سعدون،وهو باحث وكتبي تابعت مقتطفات من مساهماته في مواضيع شتى، لاسيما مايتصل بعلم الاجتماع وحصاد الكتب حوله. .فقد ورد مقطع مصور منتشر ينقل فيه بحماس أنّ علي الوردي حدّد ثلاثة أمراض للشخصية العراقية مشددا على مرض المتاهة بين الحداثة والبداوة ، كون العراقي يلبسُ ويعيشُ في ظل منتجات حديثة و سرعان مايعود الى التقاليد والتزمت الاجتماعي مع اي موقف يحدث له .
أمرٌ مؤسف فعلاً أن تصبح ( الشخصية العراقية ) شبيهة بمكبّ نفايات المستشفيات، ترمى فيها آثار العمليات والحقن وبقايا الأمصال والأدوية الفاسدة والضمادات المستعملة ، وتتجمع فيها مؤشرات العلل والأمراض جميعها ، فتستخدم اجتماعياً گعيّنة مضطربة للتنظير العشوائي والتجاوز والتوهين . بل أصبحت الصورة النمطية ( عراقيين ماتصير الهم جارة ) ايقونة يقولُها الجلاد وتردّدها الضحية ، يقولها (المفكر) ويستند اليها الباحثون والقراء ورواد المقاهي، في تكالبٍ صارخ من جلد الذات، منصاعون له جميعاً . وبسبب غياب أي منهج أو نظرية عربية في علم النفس أوالاجتماع تجادِل في هذا الأمر، وتبحث جديّا في جذوره وتقيس مآلاته بالبحث العلمي وليس الانشاء الانفعالي، أصبحت الطروحات سائبة، المصيبة والطامّة أنّ من شدّة تكريس هذه الصورة المغرضة وجعلها من أولويات التفكير الجمعي، اقتنع العراقيّ نفسُه بما ليس فيه، بانه شخصية شاذة عن خلق الله ، وانه لايجيد الحياة ولا يجيد الدين ولا يجيد الادارة ولايجيد العمل ولايجيد بناء أسرة صحيحة ولايجيد السياسة ولايجيد الحب ولايجيد التمرد أو الثورة على الظالمين ، عشائرُه نهّابة وشبابُه سلّابة ، رجاله حمقى ونساؤه بلا انوثة، عامّتهُ أميّون ومثقفوه منافقون، خليط من أعراق مهزومة وعقائد مطرودة من ديارها، وغير ذلك مما تحويه المكبّات، صور تُطرح بين الجد والتهكم ما يعدّ نوعاً غامضاً من الإبادة المعنوية لشعب طالما تميز بالايجابية والصبر والإصرار على الحياة ، بل هو أكثر الشعوب التي عانت عبر مئات السنين من انتهاك الغرباء والطامعين العابرين للحدود بذرائع الاستعمار أو ذرائع العقائد أو ذرائع انقاذ أهل البلاد من ظلم ذوي القربى .
فالتشتّت بين الحضارة والبداوة ، أوالحداثة والقدامة ظاهرة تتصف بها جميع الشعوب حتى تلك التي تنتج بلدانها أساليب الحياة الجديدة، ولذلك تتحفنا مراكز البحوث والجامعات الغربية بنظريات عن أمراض مجتمعاتها وانظمة التفاهة فيها وفلسفات الطاعة والانصياع والسلطوية وآثار الحروب والتكنلوجيا على شعوبهم باحثةً بعلمية وتجارب مختبرية عن دوافع ذلك وحجومه ومدياته ، وهو ماندرسُه اليوم في جامعاتنا مترجما عنهم.
اية شخصية قريبة أو بعيدة مناطقياً من العراق سواء في الخليج أو الدول العربية الاخرى أو لدى الاتراك أو الايرانيين وصولا الى الاوربيين والامريكان الاصليين منهم والغزاة ، كلما أحيطت اكثر بمنتجات الحضارة وتدفق التكنلوجيا وتبعاتها من التأزّم الاجتماعي كلما عادت الى تقاليدها الاولى ، الى الجماعة الصغيرة والمنطقة والعِرق والدين والمكوّن الأصغر وحتى الخرافة ، فالشعوب اليوم جميعها تعيش شيزوفرينيا ومتاهة بين الذات والعالم الافتراضي، بين الخصوصية وانتهاكها ، بين منتج الجمال والابداع الذهني التأملي العميق ،والسطحيّة وافتراس عالمِ السرعة والتوك شو ، شعوب مقادة رغما عنها بأوهام وأورام الأجهزة الذكية والقوانين الصارمة وقوات الضبط وأنظمة الحكم ، وفي نفوسها تتكلس العنصرية وضيق الافق والصور النمطية التي تتمعن دائما وتسال في كل حين، من هو الغريب ومن هو ابن البلد ومن هو الاقرب ثم الاقرب وكيف يمكننا حماية الموروث من الحداثة والعولمة والمهاجرين؟ . مرض المتاهة بين البداوة والحضارة اذا ما اعتبرناه مرضا حسب الوردي وحسين سعيد ليس حصراً بالشخصية العراقية التي وحّدنا فؤؤسنا للتنمر عليها والتباهي باكتشافنا امراضها . فضلا عن أن لاوجود حتى الان لشخصية قاومت الضغوط النفسية والسياسية وتعرضت لما تعرضت له وبقيت بانسانية تعاملها وجمل حضورها ورفعة أخلاقها وكرمها وذكائها البائن في كل شيء مثل الشخصية العراقية ، حيث يتساوى في ذلك فقيرها وغنيها. وقد عشنا طويلاً مع شعوب مختلفة لم نجد مثل العراقي في تقبله للاخر واحتوائه حتى وهو في أعلى درجات انعدام الحاجات الاساسية وانفعالاته وتوظيف عاطفته ، في وقت تَعتبِر شعوبٌ أخرى مصطلح مواطن رتبة ومنزلة اجتماعية تعلو على ذوات جميع المقيمين والعاملين على أراضيها ، حتى وان كانت قوانينهم تسمح بالهجرة او الاقامة الدائمة لاهداف متعددة بعيدة المدى سياتي يوما ما موضوع اخر لبحثها والوقوف عندها .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *