من الممكن جداً أن نكون مع النصّ من خلال مسمّياته كبناء نموذجي، الذي يقودنا إلى أحادية الخلق؛ ويكون للنصّية ( من خلال النمذجة الفعّالة ) فعّاليتها في التحوّلات التي تجري بين الجمل النصّية، وهي تحولات تركيبية تواصلية تمنح النصّ الشعري عالمه المكوّن من مفاهيم قصدية يتبنّاها الشاعر عندما يكون في مساحة خطية للنصّ المكتوب. وكذلك هناك التحوّلات الدلالية والتحوّلات اللغوية، واللتان تواجهان تأسيس النصّ كمراجعة نصّية تلازمان المنظور والتعامد النصّيين، ويكون لفعل الإشارة المساحة وخصوصاً عندما ترسم الشاعرة بعض الإيحاءات أو تنقل من المخيلة عالمها المتراكم حول الذات الحقيقية.
ننساق خلف الجمل الشعرية والتي تبدو من الوهلة الأولى ذات مسمّيات دلاليلة؛ ومن هنا، يكون للمعرفة التأويلية الوظائف والطرق السالكة نحو خلق نصّ يدوّن تأويله على عنونة كعتبة أولى، وكمطلع أيضاً، ولكن كوحدة لغوية صغيرة، وتكون هي المدخل التي تقود المتلقي إلى المعاني القصدية ( وإن كانت خارج التوضيح ) ولكنّها تحمل منظورها التأويلي من جهة، وبُعدها الإجرائي من جهة أخرى.
لايكتفي النصّ التداولي بإطار لغوي فقط، وإنما هناك عدة وظائف سيايقية ينتمي إليها، وقد ذكرها اللسانيون في بحوثهم والتي أرجعوها إلى الوظائف التداولية؛ ومنها مثلاً: التداولية الإشارية، والتداولية الوظيفية والحجاجية وكذلك ماتسعفه أفعال الكلام والبعد الدلالي وعلاقته بالنسق النصّي.
حينَ يتعبُ الفجرُ
تتشظّى المسافةُ الحُبلى بحكاياتٍ مهجورةٍ
وتَصطدِمُ الحواسُّ بنبضها الخافتِ
الوردُ اللّائِذُ بٍنِثارهِ الخَمريّ
متروكٌ لعُهدَةِ المللِ
كأسٌ نبذتها أعراسُ الغيمِ
تتآمرُ على جسارةِ الصّمتِ
تمنحُ الجَفنَ الناعسَ يقظتهُ البدائيّةَ
الدروبُ التي أكلها الترَقّب
تواصلُ انطفاءها المحمومَ
وفي الأعالي شُهُبٌ تلبَسُ ثوبَ الأمنياتِ
وخلفَ أبوابِ التَمَنّي
حزنٌ يورقُ في قشعريرةِ الذبولِ
.
من قصيدة: مدنٌ تلعنُ سوءَ طالعها – روشان علي جان
.
يكون المعنى وهو أحد أدوات البناء النصّي على علاقة اتصال مع السياق، فسياق الجملة المركّبة يبيّن نوع الوظيفة الكلامية، ولا نستغرب بأنّ القول الشعري المكتوب، يقودنا إلى أفعال الكلام كاندماج فعلي بينها وبين محطة الإثارة الفعلية في مساحة المتلقي.
ينظر بعض الشعراء إلى الجملة الشعرية بأنّها ذات فكرة تامة، وكلّ جملة ( شعرية ) إما أنّها جزء من صورة شعرية أو مقطع ذو اتصال مع النصّ، ونعتبره كجزء من الكلّ.
حينَ يتعبُ الفجرُ + تتشظّى المسافةُ الحُبلى بحكاياتٍ مهجورةٍ + وتَصطدِمُ الحواسُّ بنبضها الخافتِ + الوردُ اللّائِذُ بٍنِثارهِ الخَمريّ + متروكٌ لعُهدَةِ المللِ + كأسٌ نبذتها أعراسُ الغيمِ + تتآمرُ على جسارةِ الصّمتِ + تمنحُ الجَفنَ الناعسَ يقظتهُ البدائيّةَ + الدروبُ التي أكلها الترَقّب + تواصلُ انطفاءها المحمومَ + وفي الأعالي شُهُبٌ تلبَسُ ثوبَ الأمنياتِ + وخلفَ أبوابِ التَمَنّي + حزنٌ يورقُ في قشعريرةِ الذبولِ
هناك عدة حالات تعدّدية للسياق في النصّ، ومنها السياق الزمني والسياق المكاني والسياق الموضوعي، والسياق اللغوي… الخ، ولكن سنتوقف في محطة السياق اللغوي باعتباره على علاقة مع السياق الموضوعي والدلالي، وكذلك لارتباطه بالمقام أو السياق الاجتماعي، فاللغة الشعرية هي الحافظة الفعّالة للنصّ وانزياحاته واختلافاته من ناحية التركيب المقطعي أو تركيب الجملة الشعرية.
عندما نطلق كلمة التجريب فإنّنا في منطقة نوعية تقودنا الشاعرة السورية روشان علي جان إليها، وهي منطقة التمعّن الدلالي من جهة والمتعلّقات التأويلية من جهة أخرى، حيث أنّ النصّ المكتوب الذي يواجهنا الآن اعتمد على بعض المسمّيات الرمزية، كأنّ هذه المسمّيات من الأشياء المتعلّـقة بالذات الحقيقية؛ ومن هنا، يكون السياق اللغوي هو الجامع لهذه الأشياء، فقد ربطت الشاعرة الفجر بالهجران، وهو الرمز الذي اعتمدته بين الاستيقاظ فجراً وبين السهر أو التعب المتكرّر للآخر، بينما نلاحظ أنّها لامست الحواس بشكل عام، وطالما ذكرت مفردة النبض، إذن قادتنا الشاعرة إلى علاقة داخلية بين نبض الحواس، والأشياء الخارجية، حيث تتمّ الرؤية لديها وهي تطارد بعض المكوّنات النصّية.
حينَ يتعبُ الفجرُ
تتثاءَبُ بوصلةُ القلبِ
وتمشي المسافةُ حافيةً
والعابرونَ في اللامكانِ
يتأمّلونَ الغياب..
يُصادِقونَ ثعبانَ الأرقِ
لاتحسدوا فجراً وهبتهُ الريحُ للعراءِ
دعوا القلبَ يحتفي بانتصارِ الهزائمِ
فالصرخةُ النبيلةُ أوجاعُ الكمانِ
الأرواحُ المرصودةُ لخيمةِ البردِ
كينونةٌ في ضِلعِ العشبِ المهاجرِ
والمدنُ الغارقةُ في رماد الذهولِ
تلعنُ سوءَ طالعها
.
من قصيدة: مدنٌ تلعنُ سوءَ طالعها – روشان علي جان
.
نذهب إلى العلاقة بين المعنى والسياق، حيث أنّ الكثير من المعاني لايظهر إلا من خلال سياق الجملة الشعرية، ومن الممكن جداً أن يكون المعنى الإجرائي مرتبطاً بالدلالة، ومن خلال هذا المنظور وسّع علماء النحو المعنى، وجعلوا الدلالة حاملة للمعاني، ( إنّ علم الدلالة حين يدرس اللغة فهو لايخرج عن إطارها الداخلي، حيث يهتمّ بالبنية الداخلية للفظ، أي أنّ علم الدلالة يدخل المعاني داخل الجملة النحوية، هذه المعاني الناتجة عن مجموعة من العناصر اللغوية المؤلفة فيما بينها. – السياق والنصّ الشعري – ص 43 – علي آيت أوشان )؛ ولكن هذا لايكفي عندما ننظر إلى العلاقات التي تحدث بين الأشياء، وكذلك التغييرات والتحوّلات التي تنشأ من خلال النقل أو المعاينة النصّية، مثلاً: ليست كلّ الأشياء تحتفظ بماهيتها، فأوراق الشجرة من الممكن جداً أن يتغـيّر لونها وتصبح أوراقاً صفر وخصوصاً في فصل الخريف.
حينَ يتعبُ الفجرُ + تتثاءَبُ بوصلةُ القلبِ + وتمشي المسافةُ حافيةً + والعابرونَ في اللامكانِ + يتأملونَ الغياب.. + يُصادِقونَ ثعبانَ الأرقِ + لاتحسدوا فجراً وهبتهُ الريحُ للعراءِ + دعوا القلبَ يحتفي بانتصارِ الهزائمِ + فالصرخةُ النبيلةُ أوجاعُ الكمانِ + الأرواحُ المرصودةُ لخيمةِ البردِ + كينونةٌ في ضِلعِ العشبِ المهاجرِ + والمدنُ الغارقةُ في رماد الذهولِ + تلعنُ سوءَ طالعها
اعتمدت الشاعرة السورية روشان علي جان على الاختلاف اللغوي وتعيين رمزي في تدجين النصّ الذي جاءت حياكته بذات حقيقية رفضت الواقع المباشر، ومن هنا، فقد استطاعت الغناء وترسيم بعض المسافات بينها وبين المفردات ( ومن اللزوميات أن تكون بعضها توضيحية ) لكي تعطي بعض الإشارات والمفاهيم للسياق الحقيقي الذي تعتمده الشاعرة في المنظور النصّي.
لو نلاحظ أن أغلبية الجمل الشعرية اعتمدت على حركة الأفعال في تدجين اللغة ورسم المفاهيم الانتقالية من معنى إلى آخر، ولكن ضمن المقطع الواحد الذي يشكّل الجزء من الكلّ: يتعب، تتثاءب، تمشي، يتأمّل، يصادق وتحسدوا… كلّ هذه الأفعال وتراكماتها شكّلت حركة انتقالية في المعاني؛ فقد جعلت الشاعرة الرمزية مركّبة في بعض العبارات والجمل، وبعضها تكميلية انتقالية: تتثاءب بوصلة القلب = بوصلة + القلب، أعطت رسماً تركيبياً للمعنى؛ وكذلك لاحظنا أيضاً: ثعبان الأرق؛ انتقال في المعنى من خلال تركيب رمزي أدى إلى عبارة مبتكرة.
ياإلهَ البحارِ الضّالّةِ
أنا البذرةُ التي قضَتْ نحبها على شاطئٍ بعيد
لستُ الكَراكِيَّ القادمَ
من أرخبيلاتِ الفرحِ
أنا طائرُكَ الشَجيّ
جرحي طازجٌ
وجفنايَ ملاذُ الرّملِ والصدى
قدماي متعبتانِ
دمي أزرقُ
وصدري مُتحفٌ للغيابِ
.
من قصيدة: مدنٌ تلعنُ سوءَ طالعها – روشان علي جان
.
في بعض الأحيان يكون الاتكاء على مبدأ الإرادة، ولظهور ذلك يكون الشاعر في منطقة إعادة الحسّية الداخلية والتي تتكلّم من خلال بعض الانفصالات، مثلا؛ انفصال الذات عن البيئة، وانفصالها عن الآخرين، وعندما تنفرد تكون كائنا ظنّياً أو خيالياً أو واقعياً، ومن الممكن جداً أن تكون في جميع هذه المناطق دفعة واحدة، فالنصّ الشعري لا ينفرد من اللاممكن، بل يكون من الممكنات والمسمّيات والمعاني الدلالية، فتكون الرغبة بلغة عليا ليس فقط في الحالة الكتابية، وإنما اندفاعها نحو إيجاد الشيء المتصوَّر.
ياإلهَ البحارِ الضّالّةِ + أنا البذرةُ التي قضَتْ نحبها على شاطئٍ بعيد + لستُ الكَراكِيَّ القادمَ + من أرخبيلاتِ الفرحِ + أنا طائرُكَ الشَجيّ + جرحي طازجٌ + وجفنايَ ملاذُ الرّملِ والصدى + قدماي متعبتانِ + دمي أزرقُ + وصدري مُتحفٌ للغيابِ
حوار ذاتي بين الفضاء والـ ” أنا “، حوار تظهر الذات بحالة شجية والشاعرة روشان تعكس مرآتها أمام إله البحر، كأنّها تقدّم أوراقها على طاولة القاضي كي تقدم دعوتها بحزن شديد.
ومن هنا، اعتمدت الشاعرة السورية روشان على المحسوس أكثر من المعقول، ومن خلال المخاطبة الفعلية، فقد اتكأت على ماهية الأشياء بشكل تصوّري، وهي تطالع المستوى الاستدلالي منها وذلك من خلال فنّ التشبيه؛ والذي يؤسّس لغة الاختلاف في المنظور النصّي من جهة، وفي المنظور التصويري من جهة اخرى.
………………..
مدنٌ تلعنُ سوءَ طالعها
…………..
حينَ يتعبُ الفجرُ
تتشظّى المسافةُ الحُبلى بحكاياتٍ مهجورةٍ
وتَصطدِمُ الحواسُّ بنبضها الخافتِ
الوردُ اللّائِذُ بٍنِثارهِ الخَمريّ
متروكٌ لعُهدَةِ المللِ
كأسٌ نبذتها أعراسُ الغيمِ
تتآمرُ على جسارةِ الصّمتِ
تمنحُ الجَفنَ الناعسَ يقظتهُ البدائيّةَ
الدروبُ التي أكلها الترَقّب
تواصلُ انطفاءها المحمومَ
وفي الأعالي شُهُبٌ تلبَسُ ثوبَ الأمنياتِ
وخلفَ أبوابِ التَمَنّي
حزنٌ يورقُ في قشعريرةِ الذبولِ
حينَ يتعبُ الفجرُ
تتثاءَبُ بوصلةُ القلبِ
وتمشي المسافةُ حافيةً
والعابرونَ في اللامكانِ
يتأملونَ الغياب..
يُصادِقونَ ثعبانَ الأرقِ
لاتحسدوا فجراً وهبتهُ الريحُ للعراءِ
دعوا القلبَ يحتفي بانتصارِ الهزائمِ
فالصرخةُ النبيلةُ أوجاعُ الكمانِ
الأرواحُ المرصودةُ لخيمةِ البردِ
كينونةٌ في ضِلعِ العشبِ المهاجرِ
والمدنُ الغارقةُ في رماد الذهولِ
تلعنُ سوءَ طالعها
حينَ يصحو الفجرُ
يلوذ الضوءُ الكئيبُ بشرفاتِ الموتِ
ثمّةَ ذكرياتٌ تجولُ في أزقّةِ الوحشةِ
ومساءٌ يُنادِمُ أسلافَهُ
على مدخنةِ اللّيلِ
ثمّةَ بحارٌ مرهونةٌ للحرائقِ
تَبَرّجتْ بدمِ النارنجِ
ثمّةَ حبلاسُ الشام ينتحبُ في الأخضرِ الورِع
ثمّةَ طفلٌ يتقاذفهُ الملحُ
يَهذي بضحكةٍ تَسَعُ الكون
خُيّلَ إليه..
حينَ اتّحَدَتِ الجّهاتُ ببكاءِ الزّبَدِ
أنّهُ يجُرُّ البحرَ من أذنهِ
ويرمي بهِ عارياً فوق قُطعانِ الغيمِ
يامولانا..
ياإلهَ البحارِ الضّالّةِ
أنا البذرةُ التي قضَتْ نحبها على شاطىئٍ بعيد
لستُ الكَراكِيَّ القادمَ
من أرخبيلاتِ الفرحِ
أنا طائرُكَ الشَجيّ
جرحي طازجٌ
وجفنايَ ملاذُ الرّملِ والصدى
قدماي متعبتانِ
دمي أزرقُ
وصدري مُتحفٌ للغيابِ

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *