أُحاول الآن نبشَ ذاكرتي البعيدة كي أعثر بواحدةٍ من ثنياتها على هذا الوجه المريب لكن من دون جدوى .
لديَّ حشدٌ من الصحب يحملون نفس الإسم والملامح المغبّشة . قصَّ عليَّ واقعةً كانت حدثت قبل أربعين سنةً ، وكنا يومها نتشارك بموضع حربٍ تحت غاطسٍ تحت الأرض سبعة أذرع كأنه قبرٌ مؤجل ولو بعد حين من استضافة قنبلة توزع جحائمها علينا نحن الأربعة بعدلٍ وامتنان . زرعتُ عيناي طويلاً بوجهه السكران لكنني لم أستطع التمييز بين هذا الكائن المشتول أمامي الليلة وبين أثاث الأرض الحرام ورطين اللغة الفارسية التي كنا ننصت إليها وهي تتسرب إلينا من خلف الساتر كما لو أنها بشرى موتٍ أكيد .
طلبتُ من النادل ممدوح القبطي زجاجة عرقٍ ثانية علّها تضرب الرأس وتفتح رازونةً لفك هذا الطلسم وتلك الأحجية ، ومع رنين أول كأسٍ منها صار وجه صاحبي يشبه تمام وجه صاحبٍ عتيقٍ من كائنات مقهى حسن عجمي . رشقتُهُ بابتسامة نصرٍ مبينٍ وقلت له أنت كريم الناجي صاحب دكان الفلافل البائس الذي يطلُّ على خاصرة ساحة الميدان ، وكان سكنك الذي يشبه مطعمك يقع بظهر جامع الحيدرخانة ، وكنت وصعاليك المقهى تحولونه الى حانة مدهشة تقدم الشراب الرخيص في تلك الأيام السود التي ينثقب فيها الجيب وتستعاد أعقاب السكائر من على الأرض مع بقايا تبغ ملوث كأنه روث حضيرة .
ضحك صاحبي ضحكةً عملاقةً فزّت معها الحانة من نعاس آخر الكؤوس وأنكر أنه هو بطل الحكاية التي ذهبت إليها الآن .
على سلم ضحكته المجلجلة عرفت أنه ليس كاظم غيلان ولا عبد اللطيف الراشد ولا عقيل علي ولا جمال حافظ واعي ولا مزهر الشيوعي الوسيم الذي شغل مرتبة موزع الشاي السنكين في واحد من أطوار مقهى حجي خليل تبارك ذكره وعوده البديع .
قد يكون جواد الخباز بذقنه المستدق وهو يؤدي رقصة أخير الليل بسوق حنون الشهير أو بمقبرة الجنود الانكليز النائمة بمفتتح جسر الصرافية من صوب الرصافة .
ليلتها كنا مثل أنطوني كوين وصاحبه الحالم وهما يدقان الكعوب على أرض وهداية زوربا .
نعم هو الخباز الطاعم الكاسي والراقصون يشبهون وسام هاشم وضياء سالم وصلاح زنكنة وأحمد المانعي ، وغداً صباحاً سأجيء إليكم بالنبأ اليقين !!