في ديوانه (شوكة الراوي العليم) للشاعر مؤمن سمير هناك اتكاء على كتابة شعرية صعبة، لأنه يقترح مجموعة من المناحي المعرفية التي يصلح كل واحد منها لكي يصبح نافذة أو مدخلا لمقاربة الديوان في لغته ورموزه ومنطلقاته الفكرية، فقد تشد القارئ للوهلة الأولى مجموعة من المداخل المؤسسة في بنياته وأساليبه، منها النفس الشعري المملوء بالمعرفة الغنوصية التي تلحّ بوصفها خلفية أساسية للديوان، وتطلّ في قصائد عديدة، ومنها- في ظل الانطلاق من السابق- عنايته بالمقدس والمدنس، فهناك في قصائد عديدة من الديوان محاولة جادة لإسدال حالة من التماهي بينهما.
في قصائد الديوان هناك تماه بين المتعالي الأبدي والبشري، وهناك توقف لافت عند التنين والتيس والشيطان، وكلها جزئيات تؤسس سبيلا للمعرفة ينطوي على أسس خارقة للمعهود والمقرر من خلال الانضواء خلف نسق يزلزل الجدار بين المقدس والمدنس، ولكن التفكير المتأني يثبت أن المدخلين السابقين ليسا مقصودين لذاتهما، ولكنهما- عند مساءلة النص كيانا كاملا- مجرد وسيلتين لتأسيس المنحى الأكثر حضورا وهيمنة في الديوان، فهذا المنحى يحيل كل المداخل السابقة وما يتجاوب معها من رموز ودلالات إلى مجرد جزئيات وارتهانات بسيطة يوجهها حسب طبيعة وجوده، وحسب حالته، وحسب صورته التي تطل فاعلة من بداية نصوص الديوان إلى نهايتها.
وربما يكون الوقوف عند تحديد ماهية الراوي العليم، أو الاقتراب من حدودها مهما، لأن هذا الكيان غير الفيزيائي شغل المبدعين في توصيفه وتحديده على مرّ الأزمنة، ففي التراث العربي هناك حديث عن شياطين الشعراء، وفي شعر الرومانسيين اكتسب قداسة خاصة انطلاقا من عنايتهم بالخيال، وكتابتهم بعيدا عن سلطان العقل، وفي النصوص المعاصرة أخذ أشكالا عديدة. والوصول إلى تحديد أو قبول هذا التأويل ليس بالأمر البسيط أو الهين، لأنه يجب أن يكون مشفوعا بأشياء نابعة من مقاربة البنيات النصية وتحولاتها في النصوص، وقدرتها على توليد خصوصية رؤية مغايرة.
في هذا الديوان هناك محاولة لكتابة سيرة شعرية لمعاينة الراوي أو الظل والشعور به وبأشكال وجوده، ولن تتم كتابة سيرة شعرية للظل- وهي الكلمة الأكثر حضورا في نصوص الديوان- إلا بالوعي بهذا الظل، والوعي بمراحله وحالات تماهيه مع الإنسان، في التنافر والتوحّد والهيمنة أو في وجود القسيمين منفردين، يحفظ لكل قسيم منهما حدوده ووجوده. فوجود قسيمين يؤدي بالضرورة إلى تشكلات متوقعة، وإلى حالة من الشد والجذب بينهما، وقد يكون هذا الوجود ماثلا في الانفصال بينهما، ويتجلى ذلك غالبا في اللحظات الأولى، وقد يكون مرتبطا بالصراع أو التنافر، لأن كل واحد منهما يحاول أن يقارب الحياة وفقا لمنطلقاته، وقد يكون قائما على الهيمنة والسيطرة من قسيم على آخر، بحيث تبدو المقاربة وثيقة الصلة برؤيته للحياة والكون، وقد يكون قائما على التوحّد، حيث يكشف الصراع مع الواقع في النهاية عن تقليم في منطلقات الظل، وعن تقليم في منطلقات الإنسان، مما يؤسس لمساحة مشتركة للحركة، ويصبحان داخل كيان واحد يجمع قسيمين مختلفين.
استراتيجيات التشكيل
في تشكيل الظل وإبراز ملامحه ومنطلقاته استندت النصوص الشعرية إلى مجموعة من الآليات الفنية والأفكار المعرفية التي يشعر المتلقي بحضورها، ولعل أهمها يتمثل في استراتيجية التغييب، والتغييب أو الغياب في النصوص السردية لا يعدو أن يكون آلية سردية كاشفة عن تنميط سردي، لكنه في النصوص الشعرية يكتسب وجودا خاصا، لأنه لا يكشف بقدر ما يخفي، فالصفات المسدلة بالرغم من كثرتها لا تنحو نحو التحديد، لكنها تفتح بابا واسعا للخيال من خلال صور تندّ عن التصور الواقعي، ولا يتحملها المنطق العادي. فهناك – من خلال هذه الآلية التي تلضم حركة المعنى والدلالات- توليد لصور لها هالة خاصة، بالإضافة إلى أن التغييب جزء من تفتيت ارتباط وجهة النظر بالذات في محدوديتها، ليجعلها رؤية عامة.
ففي نص (البعيد في يقينه الصافي)( ستدخل روحه الغرفة الآن- ستحكي وأتضاءل – كنت قد وشمته على عظمة كفّي- وحطّت الريح على السقف- ورتبت الضلوع على مقاسها فنسيته- سيدخل حاملا أمي المكسورة من جرتها- فأس أبي الطائر-عرائسنا التي من القش- وصندوقا عليه رمل- ونقوش- سأغمض وأقول أيا ظلّي الميت- لحد الطوفان- أنا بانتظارك) سيجد أن المتلقي أن هناك تآزرا بين الصيغتين (البعيد- واليقين) وصيغة (العليم) في عنوان الديوان للإيحاء بالمبالغة في كل صفة من الصفات، وكأنها تؤسس لحدودها القصوى، فالحضور هنا بفعل التغييب حضور مغاير، يكشف عن غياب الإنسان في مقابل الظل. تتأسس ملامح المغايرة من خلال الإلماح إلى الريح، وكأن هذا الحضور به مسّ من الزوبعة المعروفة في تراثنا العربي بحضور الشيطان أو العفريت، وتتجاوب مع هذا الحضور وتشارك في تنميط حدوده مجموعة من الصور مغايرة للمنطق، ومفارقة له.
فالصور المجهرية تتعاضد فيما بينها، بداية من (حمل أمي المكسورة من جرتها)، و(فأس أبي)، ومرورا بصورة (عرائس القشّ)، وانتهاء (بالنقوش) تؤسس حضورا خاصا قائما على التغييب، فتبدو للظل من خلال ذلك هالة واضحة قادرة على الفعل والحركة. وربما يجدي الوقوف عند كلمة (نقوش) الواردة في النص السابق، وفي نصوص أخرى، مما يجعلها جزئية بنائية دافقة الحضور، للانتقال إلى عنصر ثان من عناصر تشكيل هذا الظل، بحيث يمكن اعتباره رافدا أساسيا في التشكيل، وهي جزئية التناظر اللافت في نصوص الديوان بين (المقدس) و(المدنس). فقارئ الديوان لن يفلت منه ذلك الحضور الخاص بالغنوصية في تشكيل الظل، وذلك من خلال حضور الشيطان والذئاب والحفر وطقوس الذبح للوصول إلى حالة من حالات إعادة الاتصال، وكذلك التراتيل التي تعيدنا إلى ترتيلة أو ترنيمة اللؤلؤة، وهي الرسالة التي يرسلها السماويون إلى رفاقهم المنفيين في العالم، بالإضافة إلى بعض الألفاظ الدالة مثل (الغريب) أو (الآخر).
الديوان في مجمله مشدود لقضايا مربكة ومؤرقة، فالشعر ليس من ذلك النوع البسيط أو السهل، ولكنه شعر التداخلات والاندياحات العميقة بين الأشياء، ومن هنا يأتي الوعي بالظل ملتحما بهذا الحضور الخاص بالغنوصية، لأنه يؤسس من خلالها ثنائية فارقة بين الإنسان والشاعر، تتيح للشاعر إطارا يقرّبه من المعرفة، وتجعله يلتحم بالمقدس المتعالي، فالغنوصية في كل تشكلاتها الفكرية تفرّق بين الإله المتعالي والإله الديميرج الذي أنشأ العالم. في قصيدة (آلهة وعواصف) لا يتم الكشف عن التداخل بين المقدس والمدنس في التماثل بين (الصلصال) و(الأطفال) حيث كل الصفات المسدلة على قسيم يمكن أن تتحرك لتحل محل الآخر والعكس، ولكنه يتأسس على نحو واع في ذلك التقابل بين رؤية الأب والأم للنقوش التي هي صورة متماسكة للصلصال، حيث يقول الشاعر (يقول أبي الشيطان يعيش في النقوش- ولكن أمي توقن أن الله يطلّ منها).
فمن خلال هذه الثنائيات المؤسسة في النص بين الصلصال (مادة التشكيل والتجسيم) والأطفال (نتاج عملية الخلق)، ورؤية الأب ورؤية الأم للنقوش، تتولّد حركة لزحزحة الخيط الرازح بينها، وتمتد هذه الزحزحة بين الشيطان والله الخالق، من خلال ما تكتسبه النقوش من قداسة أولى، فاسم الشخص السري أو الروحي منقوش منذ البدايات الأولى وبشكل أبدي مع الله في كتاب الخلق، وهذا الترابط أو التوجه يمنح تشكيل الظل خصوصية بها ملمح من القداسة والمعرفة.
تتمثل الاستراتيجية الأخيرة في تشكيل الظل نظرا لخصوصية الكتابة والوعي، في مرجعية الضمائر وتوزعها، فالقارئ يشعر أن هناك نوعا من القلق في مرجعية بعض الضمائر، وهو قلق فني للإشارة إلى حالات التداخل والتماهي، نلمح هذا التداخل أو تلك الازدواجية في مفتتح الديوان: عندما سأموت- سيخرج الله حرابا وسهاما- وقطرات ندم وبكاء- ستطلع من هذه الرأس مقابر كاملة- يباهي بها أصدقاءه في عزلاتهم- ويقول انظروا ضنّ بأنقاضه على الناس- واختار أن يؤنس وحدتي- بألوان ومتاهات- بدلا من وجهي الذي يكبر- في طول الليالي وعرضها).
تبدو الازدواجية في مرجعية الضمير في (وجهي) واضحة، فليس هناك قرينة تجعله وثيق الصلة بصوت المتكلم أو بالمسرود عنه، وهذا ربما يكون كاشفا عن فراغ الوجود المطلق قبل الخلق، والوجود الفعلي بعده، خاصة بعد قراءة السطور الثلاثة الأولى في بداية المفتتح (أكتب قصائد كاملة في رأسي- ثم تأكلها الريح- كنت قديما أهز رأسي وأحزن- لكنني لما أدركت ابتهجت)، فالسطور السابقة تشير إلى الوجود الساكن المطلق قبل الخلق وإلى فعل الخالق ووعيه بذاته وبالعالم، فيتشكل هناك إدراكان متداخلان، إدراك بالذات وإدراك بالعالم. وتقديم العلاقة بين الإنسان والظل على هذا النحو المقارن بين المقدس والمدنس أو بين الخالق والعالم مقصود، للإشارة إلى أن الظل/الراوي يطل في إطار علوي وتكوين مقدس، بعيدا عن الإنسان المدنس بالارتباط والانشداد للعالم.
في ظل الاستراتيجيات السابقة يتشكل لدى القارئ وعي بالظل يرتبط بالمغايرة والاختلاف، وذلك في وجود إمكانات نوعية مغايرة لإمكانات الآخرين، ففي قصيدة (نصف إنسان) يتجلى أن قدرته في صيد الأسماك –يمكن أن تكون إشارة أو رمزا لآلية مقاربته للحياة- ضعيفة في المقارنة بمجايليه من أقرانه وحتى أجداده في توجهم المباشر وسُبلهم المعهودة، وذلك لأنه لا يتوسّل إلى ذلك الأمر بوسائلهم المعهودة، وإنما يصنع وسيلته من تكوينه في قوله (في ليالي الشتاء اعتدت أن أحشو عيني بالنجوم وأنام متحفزا)، ومن خلال المغايرة في التكوين تتأسس مغايرة في طبيعة الوصول إلى الهدف، لأن اختلاف التكوين يؤدي إلى اختلاف الوسيلة بطريقة أكثر نجاعة، فيصبح صاحب طريقة مبتكرة، تلك الطريقة التي لا تحتاج سوى عينين محشوتين بالحنين حيث تشير إلى طريقة مختلفة في إدراك العالم ومقاربته.
إدراك المغايرة في الوسائل للوصول إلى الهدف- صيد الأسماك بوصفها عملية كاشفة عن طبيعة المقاربة للذات والعالم- يشير إلى إدراك الذات لنفسها باختلافها، بالإضافة إلى الوعي بهذا الاختلاف. لكن هذا الوعي بالاختلاف لكي يكون حقيقيا عاما يجب أن تكتمل حدوده بوعي المحيطين بالشاعر أو الظلّ، وذلك من خلال رؤية الأب والأم في حديثهما عنه وتوصيفهما إياه، فالأم تراه (ساحرا سيحرقه الله قريبا في قلب القرية)، والأب ينظر إليه في دهشة الخائف، لأن التكوين المؤسس لقدرته أسس له- انطلاقا من عجزه فيما يتقنه الآخرون بأساليبهم- وجودا أقرب إلى الشفافية أو الخفّة، ليصبح وجودا أقرب إلى وجود الحكيم المتعالي في وعيه ومعرفته.
وفي الإطار ذاته تأتي قصيدة (حمامة تنظر خلفها) متجاوبة مع صفة الساحر التي أطلقتها الأم في توصيفه في النص السابق، وذلك من خلال الاشتغال على التأسيس القديم للأب بوصفه (ساحرا)، ومن خلال المرأة أو الساحرة التي يأتي حضورها في الديوان مرتبطا بالظل، وتشده محاولة ربطه بالأزلي والأبدي (تسحرني بعينين تطيران كل صباح لأعلى- وأنا خلفهما- وتهبطان جسدي- فيعود صفاء أخضر- وقلبي تفّاحة تتعصى على الظلام). فمفتاح النص هنا- في ظل المنحى الفكري- يتمثل في شيئين، الأول في الوصف (يا غريب)، والأخير (مفاتيح الأب) التي سقطت في حجر الغريب.
فالمفاتيح هنا إشارات وتنبيهات على معرفة يتمّ الوصول إليها بسبل غير عادية، مشدودة إلى وظيفة الأب وهي السحر، وتبدو وظيفة منطوية على حضور الساحرات والعفاريت لإعادة السير في الطريق ذاته. ويتكرّر المنحى ذاته في نص (كيف حالك اليوم أيها البدائي الشقيق؟)، وفيه تتولّد تشكيلات للظل بناء على أبنية سابقة شكلها الشعراء، في ظل دلالات للبدائي والشقيق. فالبدائي هو الظل أو الشاعر الجارح، وهو يطلّ دائما في تحديدات الشعراء في ظل هذا الوصف، لأنه لا يقيم وزنا للأعراف أو التقاليد الاجتماعية، وهناك تأسيسات لافتة لهذا المنحى الفكري الخاص بكونه شقيقا أو أخا أو بكونه صادما، وأعتقد أن سعدي يوسف أول من اسس هذا المنحى كتابيا انطلاقا من تقديس الرومانسيين للشاعر، حين أصدر (الأخضر بن يوسف ومشاغله)، وهناك شعراء استندوا إلى جريمة القتل بين قابيل وهابيل، وكأن رحيل أو موت أحدهما وثيق الصلة بميلاد الآخر، وذلك لإضفاء نوع من القداسة، وللإشارة إلى قيمة هذا الربط بين البشري والشعري المقدس.
الظل في جزئيات ونصوص كثيرة من الديوان يرتبط بامرأة أو ساحرة لها صفات خاصة، فكأن هناك حالة من التداخل بين صفات الظل وصفاتها، وتوازيا بين هطول الظل وحضوره وهطولها وحضورها. ففي نص (في مكان قصي) هناك حضور للظل وللمرأة وللراوي الموزّع بينهما في رصده وسرده للحكاية، وفي رصده للتنازع الداخلي بينه وبين الظل، يقول النص (ومرتِ السنون وأنا ألمح ظلها يقترب من الستارة ويغيب… أو لأكن صداقا وأشكّ في حواسي- لم أر الظل ولم ألمح رعشته- لا يليق أن أوقن- وهل شممتك أيتها العصية أصلا؟). وحضور المرأة أو الساحرة في نصوص الديوان يلفت النظر إلى آلية اعتمدتها النصوص في اتكائها على عالم السحر والشياطين والأساطير مثل عواء الذئب لحظة اكتمال القمر، بالإضافة إلى عمليات الذبح الخاصة بالقرابين التي تقدم إلى الشيطان، فالعواء محاولة لاستعادة الجوهري القديم، وإظهار هذا الجوهري للذات والعالم. وهذا ليس مقصودا لذاته، ولكن لكونه يؤسس خصوصية للظل، ترتبط بوجوده القديم المقدس، على نحو ما يمكن أن نرى في نص (الدوران في الغابات والصحاري)، حيث يقول (آخذ نفسا عميقا وأفتح عينيّ لألتهم الرقعة المرشوشة بالأحجار- وكلما عوى الذئب وبان القمر في كفّ الحسناء- أبصر ما لا يبصرون).
التماهي والانفصال
وجود الظل والإنسان بوصفهما قسيمين مختلفين في مقاربة الحياة والواقع يؤسس في نصوص الديوان ثنائية لا تتجلى على هيئة واحدة، ولكنها تتجلى في إطار هيئات عديدة وثيقة الصلة بطبيعة الظل، وطبيعة حضوره أو غيابه، وتوزعه بين الهيمنة أو الفاعلية والانزواء. وفي كل هيئة من هذه الهيئات تتشكل للظل والإنسان حالات من التجاوب والتنافر والتوحد والانفصال. تتجلى الحالة الأولى في غياب الظلّ، وما يوجده ذلك الغياب من توليد صور كاشفة عن الحياة بجهامتها وصعوبتها، لأن حضور الظل في الأساس أداة للحركة والتسامي نحو المقدس بعيدا عن المدنس، يقول الشاعر في نص من نصوص الديوان (كلما غاب قلبي عن ظلي- تعلو شقوق الغرفة- تصير مراكب ورمالا- وبالونات غليظة- كلما اقتربت من الأعياد- تأخذ شبهتي في ساحة الصلب- وتسوقني من حدبتي لأخر المدينة).
ففي الاقتباس السابق هناك تأسيس للثنائيات عديدة، المقدس والمدنس، المسيح وشبيهه، الظل والإنسان، وهذه الثنائيات – بالرغم من ارتباطها بالوجود المفرد المنفصل لكل قسيم- تثبت وجودا ممتدا في القدم والقداسة للظل، وعلى هذا نجد الإشارة واضحة للاحتياج للظل وفاعليته، أو من خلال الإشارة إلى المتغيرات التي لحقت به نتيجة لفعل النزال مع الواقع (لكنه الآن يئن بعدما كان يزأر- أعلى وأسفل- سكنت الريح عشك يا مسكين- وعيونك المغرورة احتقنت- كلما فتحت كفّي أسمع: يدي قصيرة ومغلولة- فخذني يا أخي- خذني ولا تخفْ)
غياب الظل/ابتعاد المسيح وارتفاعه، وحضور الإنسان والشبيه كلها أشياء تؤسس لفاعلية المدنس، وبروز الواقع بصورته الصلدة والجهمة، وفي سبيل ذلك تلحّ المطالبة أو الرجاء بشكل واضح إلى الظل أو إلى الشقيق لكي يفكّ قيد وغلّ اليد لبراح الخيال الشعري طلبا للحضور أو التوحد. فالتوحد يشكل المرحلة الأكثر أهمية بالرغم من توزعها بين التنافر والصراع والهيمنة. ففي نص (أصدقاؤنا في الغربة) يأتي التوحد واضحا بين الظل والإنسان، فحين يقول النص (الأصدقاء البعيدون هناك – لم يسمعوا صوت انسحاب روحي- عندما خشّ بحر من النافذة- وقال سأغرقه يعني سأغرقه- خياله الأسود يؤذي بياض ذكرياتي- لم يشاهدوا اكتمال النمل في عصا النبي- وحسرته كلما طالت أظافري وصارت أقوى) يدرك القارئ أن هناك حالة من الحضور والهطول يقوم بها المتعالي، وأن هذا الحضور يمارس دوره من خلال الصور المجهرية للإشارة إلى سيمياء التحول من إطار إلى إطار، ومن نسق إلى نسق، وما يتجاوب مع ذلك من نعت الأصدقاء البعيدين(خارج نطاق التوحّد والاتصال) بغياب المعرفة وعدم إدراك الحالة، ويؤدي الحضور أيضا دورا وثيق الصلة بطبيعة النظرة إلى هذا الظل، لأن في حضوره إنعاشا للذاكرة المرتبطة بالبدايات الأولى لفعل الخلق ذاته، فالإشارة إلى سليمان والنمل إشارة للقدرة والمعرفة.
وتتآزر مع الصور المشكلة لذلك التوحد بداية من (انسحاب الروح)، ومرورا (خشّ بحر من النافذة)، وانتهاء بصورة (طول الأظافر) صور أخرى في نهاية النص كاشفة عن حضور الظل وهيمنته في مقاربة الحياة، لأنها صور خارقة للمعهود والمقرر (عشرون عاما وأنا على هذه الحال- نمت خلالها في ظهري شجرة- ظللت عليّ حتى وصلت الاستنارة- وأشرقت الحكمة فيّ- وعدت كلبا أبيض ملاكا- بلا أطفال ولا ذيل طويل- يعدو ويعدو في الجنة الواسعة). شعر مؤمن سمير من خلال النماذج والاقتباسات الدالة يكشف عن كونه شعر الكتلة المعرفية الواحدة أو المرحلة الواحدة يقاربها من وجوهها العديدة، وفي كل مرة يحاول الإمساك بشيء جديد يتفلت ويتأبى عن الحضور في المقاربات السابقة. وربما يكون الجزء الأخير من الاقتباس السابق ذا أهمية في تجلية أو تأكيد موقف مغاير لطبيعة الظل، لأن الكتابة- الناتجة عن فاعلية الظل- تصبح وسيلة من وسائل إعادة الاتصال بالمتعالي والإحساس بالأبدية داخل الجنة الواسعة.
ويتكرر هذا الإطار الكاشف عن التوحد في قصيدة (الراعي) من خلال بعض الصور اللافتة في تجذير قدرة وفاعلية مغايرتين، من خلال (أنا الحرّ الحقيقي – كل ما تنسجه عيوني وأحلامي- هو لي)، أو من خلال (كلما فردت ذراعي تطول)، فالظلّ هنا يؤسس من خلال فاعليته خرقا لحدود البشري، من خلال فرض قدرته وسطوته على الريح والأساطير والمطر وجزئيات الطبيعة. في بعض النصوص الأخرى يأخذ هذا الحضور صورة كاشفة عن الهيمنة وتغييب الإنسان المشدود لتواصل اجتماعي وأعراف، يتجلى ذلك في نصه (أمشي بفضيحتي أمامك يعني أمام الجميع) بشكل لافت من خلال وجود الظل في مقاربة الحياة، حتى لو كانت مقاربة مكبوتة ومطعونة واقفة عند حدود الخيال، فتأتي الهيمنة واضحة من خلال صور كاشفة عن ذلك الوجود الخاص غير الفيزيائي الذي يصدم الجميع بصورة خارجة عن الأعراف والاتفاقيات الاجتماعية.
وهذا النص يعيدنا إلى فكرة المغايرة والاختلاف التي أشرنا إليها في نصه (نصف إنسان)، ولكنه هنا أكثر دلالة على معاندة السائد، والانشداد إلى خرق المؤسس الاجتماعي الذي يتشابك مع الديني لخلق حالة خاصة من موجهات حركة الأفراد. يتأسس ذلك في حدود ذلك التوزع بين الفعل الخيالي المرتبط بالظل الذي لا يبقي على هذه المواضعات، والتواصل البشري المرتبط بالإنسان في حدوده المعهودة، ومن خلال ذلك يتأكد تباينه مع محددات العرف ويتضاد معها كالسطو على نقود البركة، وافتضاض التلميذات الصغيرات اللواتي لا يفلتهنّ في كوابيسه. ولكن كل هذه الصور القائمة على فعل الخيال، لا تبعد الظل أو تقصيه عن وجوده المقدس المتعالي، فكأن أفعاله المتخيلة المكبوتة جزء أو باب للكتابة وللخلق الشعري المساوي والموازي لخلق العالم (أعجن الماء النبوي وأعيد الخلق وألعق الغفران- وضعت السمّ لثلاثة عجائز حتى الآن- وفضضت بكارة كل حليلاتك بين إغماضة عين وأختها).
وإذا كان التوحّد يشكل حالتين أو هيئتين من هيئات حضور الظل، من خلال الهطول والسيطرة بوصفها مرحلة أولى، أو من خلال الهيمنة واكتناز وإضمار المغاير والمباين للأعراف، فإن مرحلة الانفصال بعد هذا الحضور المتكرر في كل مرة، تمثل حالة إضافية للحالات السابقة، تكشف عن تعري الذات بمفردها في مواجهة ومقاربة العالم، فهناك حدود لكل قسيم لا يتجاوزها. فالوصف الموجود في عنوان النص (مساء عجوز)، يؤسس لذلك الفهم والتلقي، فالشعر- مثل الشياطين والذئاب والقمر- كائن ليلي، وهذا الوصف (عجوز) فيه حضور للزمن، والتقنين الزمني ضد أبدية الظل والشعر، ولهذا نلمح في النص نوعا من الهدوء الكاشف عن الاسترخاء.
النص يؤسس حالة من تكويم الرماد بعد الاشتعال، أو الموت بعد الحياة الدافقة والنابضة، وهذا الموت يصيب الجزئيات الموجودة المصاحبة لفضاء النص من خلال عقد المشابهة أو التأثر بالسياق العام، فحين يقول النص (بيتي هادئ هذا المساء- وأنا هادئ كبيتي-ونحن الاثنان- نشبه كلبة الجيران- كلما عادت من المقبرة- هدأت العاصفة- وكفت الطائرات حكاياتها- وأحنى العشب- رأسه) ندرك أن المدخل يمكن أن يكون ماثلا في المقارنة بين عنوان هذا النص، وعنوان نص آخر قريب أو شبيه في الصياغة، وهو نص (مساء غارق)، من خلال المقارنة بين الصور الجزئية الكاشفة عن الانفصال في (مساء عجوز) والصور الجزئية الكاشفة عن التوحّد بين البشري والأبدي، فنراه يقول في الأول (مساء غارق) (وإنما أشرت لهما أنا على صياد عجوز- تحطمت عظامه ببساطة- وساب خريطة على سطح الماء كأنها يد- والأغاني التي عادت من ساعتها- تمجد القمر السود- والنجوم المدفونة في جيب قديس- طائر- هي مركبه القديم- هي ابتسامته الغامضة).
يمكن أن نتوقف عند صورة واحدة وردت في النصين من خلال التباين، ففي النص الأول (مساء عجوز) نجد (كفت الطائرات حكاياتها)، وفي النص الثاني (مساء غارق) نجد (في جيب قديس طائر)، لنعرف حجم ومساحة التباين بين الحضور والغياب، وفاعلية الحضور من خلال فعل الطيران بوصفه الحركة المستمرة بين السماء والأرض أو بين البشري والأبدي، وفاعلية الغياب ودوره بعد الانفصال والتلاشي في تشكيل وجود شبيه بالقصور الذاتي يستر تهافته بالسكون والوجود المنعزل.
وجود القسيمين على هذا النحو بعد انفصالهما، بوصفهما وجودين مقهورين في حلبة الحياة والصراع مع العالم والوجود، لا يعني أن هناك هزيمة للظل والإنسان في الآن ذاته، وإنما يكشف عن أن هناك تقليما لهذا الظل نتيجة للنزال أو عراكه مع الحياة لتثبيت مثله ومنطلقاته الأساسية، فلم تعد له تلك الفاعلية المرصودة له من البداية، ويمكن أن نقول بشكل قد يكون أكثر دقة أن منطلقاته أصابها شيء من التغيير نتيجة لعمليات الصراع والتحوير المتفلت بهدوء، ففي نص (الرشفة الضائعة) يتأسس هذا الفهم من خلال قوله (الغائب الذي ما زال يشدو للجحيم- عشرين عاما يجلس خلف الجدار-عاريا بلا جسد- ولا ظلال تؤنس خوفه- الملاك الذائب في جلدك- قصّ الطوفان أجنحته- واستغله المغامرون في قطع الطريق- وفي نسيان القبلة المسحورة). فالجزء المقتبس من خلال قصّ أجنحة الملاك أو الظل، ومن خلال تحوّله إلى أداة استغلال للمغامرين يؤسس للتحوّل في منطلقات الظل المثالية الأولى، وما يرتبط بها من قداسة وسحر وامتداد أسطوري لحالة الصفاء والانسجام الأولى.