ما أن غمرت النفوس العربية نسائم الطمأنينة بعد الذي حققتْه قمة جدة يوم الجمعة 19 مايو/أيار 2023، وبالذات نفوس المبتلين بالصراعات والخلافات والشراهة لدى بعض أقطاب السُلطة إزاء جمْع الثروات أو حتى نهبْها والإقطاعات الحزبية التي توالي الغريب على حساب الوطن، حتى إرتسمت في الأفق حالتان خارج النص وخارج الأصول وخارج قواعد بُعد النظر.
في البداية كان التصرف الإسرائيلي لجهة إقتحام المسجد الأقصى مدعاة للإستهجان، ذلك أنه تزامن مع إنعقاد القمة فضلاً عن أن وزراء في الحكومة الإسرائيلية التي يترأسها نتنياهو الممتلىء حقداً على دول عربية لم ترحب ماضياً ولا ترحب بعد ترؤسه الجديد للحكومة بزيارة لها. وإلى ذلك إن الإقتحام حدث بغطاء من الحماية الأمنية وتقدَّم المستبيحين وزراء في الحكومة منقوصي بُعد النظر لا يدرون أن أي شعبوية يحصلون عليها كفيلة بإحداث عثرات في طريق السلام الدائم الذي حسمت قمة جدة ملامحه من خلال إستهلال إعلان القمة الذي هو عادة ميثاق الدول الأعضاء المشاركة يصدر متوِّجاً ما جرى خلال الإجتماع الشامل واللقاءات الثنائية قبل الإنعقاد وبعده، بعبارة “التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية وعلى أهمية تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية وإيجاد مناخ حقيقي لتحقيق السلام على أساس حل الدولتيْن وفقاً للمرجعيات الدولية وعلى رأسها “مبادرة السلام العربية” والقرارات الدولية ذات الصلة ومبادئ القانون الدولي…”. في أي حال لن تلغي الكرنفالات الشعبوية مقرونة بعدم إدراك الحكومة الإسرائيلية الحالية تحديداً كما بالذات بعض وزرائها حقيقة ثابتة وهي أن مصير القدس الشرقية هو إما عاصمة للدولة الفلسطينية التي لا تلتزم الإدارات الأميركية وكذلك الأطلسية عموماً بما تصرح به وبالذات في ساعة الإحتياج إلى تلبية مصالح من أن السلام يتحقق، صيغة الدولتيْن” وإما عاصمة روحية حيادية منزوعة السلاح وموحَّدة تمثل الديانات الثلاث أي بما معناه تكون “فاتيكان آخر” في المنطقة العربية محروساً بالإقتناع أن السلامة هي في تحقيق السلام الشامل.
تظاهرة همجية
كانت التصرفات الإسرائيلية التي إختلط فيها الرعاع بالوزراء مسيئة لأصحابها خصوصاً أن هؤلاء من واجبهم التنبه لما تعنيه الإساءة إلى الرسول، فيسجلون إنسحاباً من التظاهرة الهمجية وإعتذاراً، وأظهرت كم أن ثلاثة أرباع القرن من الغرس الدولي لدولة لليهود في فلسطين، لم تحقق القبول العربي والإسلامي الثابت رسمياً وشعبياً لهذه الدولة في إنتظار صحوة يهودية شاملة ترى أن “مبادرة السلام العربية” هي الفرصة التي لا ذهبية مثلها، وأن همجية المستوطنين وغزو غزة بأربعين طائرة لا تنهي صراعاً.
حالة ثانية خارج النص حدثت فيما نسائم الطمأنينة مما إنتهى إليه رموز القرار العربي في قمة جدة، والتي أضيف إليها نسيم أتى من إيران وتمثَّل في عبارة من نوع ما قل ودل صدرت عن المرشد علي خامنئي بعد ساعات من إرفضاض أعمال القمة مخاطباً الجهاز الدبلوماسي وهي “ضرورة التعامل الحكيم والمرونة مع حفْظ المبادئ. إن سياسة التواصل مع الدول الإسلامية حتى لو كانت بعيدة بالإضافة إلى الدول ذات التوجه المشترَك والمؤيدة لإيران تحظى بأهمية بالغة. إن سياسة الحكومة الحالية لإقامة العلاقات مع الجيران مهمة وصحيحة للغاية. إن المصلحة تعني إمتلاك المرونة في الحالات اللازمة لتجاوز العقبات الصعبة…”.
والحالة الثانية خارج النص وخارج بُعد النظر وخارج القراءة بعمق لواقع الأحوال عامة تتمثل بعرض حربي ? “حزب الله” بدا للذين تابعوه عبْر الشاشات الفضائية أنه مشروع مواجهة جديدة وأنه رسالة إلى مَن يهمهم أمر لبنان في القمة العربية بأن فقرة في “إعلان جدة” لا تعنيهم أو إنها إذا كانت العبارة تشملهم فإن “حزب الله” غير ملتزم بها وهذا يعني أن إختيار وإنتخاب رئيس للجمهورية ما زال من المستعصيات كما يعني تعارضاً مع روحية كلام المرشد خامنئي الذي أوردناه. والعبارة هي “يشدد إعلان جدة على وقْف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة على نطاق مؤسسات الدولة”.
استنفار اسرائيلي
وبدلاً من المناورة الضخمة التي أجراها “حزب الله” على الحدود مع فلسطين حيث هنالك إستنفار إسرائيلي ضخم، وحَرصَ على إظهارها إعلامياً متميزاً وإرفاق المشاهد الحربية التي لم يسبق للبنانيين أن رأوها في مناورات جيشهم النظامي.. إنه بدلاً من هذه المناورة وتناغماً مع قمة عربية أعطت الموضوع الفلسطيني حقبة وأعطاها المرشد خامنئي من جانبه تفهماً واضح المضمون رغم رمزيته، كان من الأهدأ إقامة إحتفالية خطابية غير حربية ومن نوع المجالس العاشورائية يقال فيها من الكلام إزاء واقع الحال لبنانياً وتشديداً على النصح أو التحذير الكلامي لإسرائيل ما يفي بالغرض ولا يترك ذريعة للتخوف المبالَغ به من “حزب الله” وبذلك لا تطفو على مياه البحيرة السياسية الراكدة ملامح مجادلات محتملة الحدوث.
و”حزب الله” في ما فعل، كان بمثل ما فعله طرفا الإحتراب في السودان اللذان لم يحترما بما يكفي الإرادة الجماعية العربية حلاً دوائياً مهدئاً في شكل جرعات لصراع الرابح فيه خاسر بإمتياز. وهنا نقول إن مسارعة الجنرال عبدالفتاح البرهان لفض غير كريم للشراكة مع الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) شكلت إحراجاً لما إستقر عليه تقييم الوضع في السودان، والتأكيد على أن سعي الحوار الذي رعته المملكة ولقي مباركة عربية ودولية، كان العلاج الذي من شأنه في حال الإلتزام بجرعاته السياسية والإغاثية إنتاج الحل الثابت. عسى ولعل يعيد الجنرالان النظر في الصولات والجولات وبذلك تستعاد التهدئة وتنشر الطمأنينة نسائمها في النفوس.
وما خسر مَن إهتدى إلى سواء السبيل وإلى الإعتبار بأن الأخذ بمضامين “إعلان جدة” هو ما يحتاجه الذين خرجوا عن النص ولم يلتزموا بالأصول ولم يكونوا بعيدي النظر. والله الغافر.