أمر الملك شهريار بنت وزيره شهرزاد أن تروي له ما علق بذهنها من رحلاتها الى بعض البلدان ، وكيف هي حال الانسان ، وما تتمناه أن يكون مثله في بلادهم ، وبم تنصحه وهي اللبيبة الفطنة ، معترفا لها بأن الأمور ليست على ما يرام ، والحال في السلطة لا يشبه ما قبلها ، فطلبت من جلالته منحها الأمان ، وألا ينفعل من صراحة قولها ، وألا يرى فيه تقليلا من شأنه او تحقيرا لهيبته ، فقال لها : لك مني ما تريدين ، لكن عجلي ففي الوقت ضيق ، وفي الانتظار صديق ، فاستهلت حديثها بحمد الله وشكره على ما أنعم به على بلادهم بخيراتها الكثيرة وأموالها الوفيرة ، وقالت : يا أيها الملك السعيد ، ذو العقل الراجح والرأي السديد ، للمناصب بريق ، وحلاوة أكثر من العسل ، ولا يقربها ملل ، ففي المناصب سلطة ومال ونفوذ ، لكني في بلاد الآخرين لم أر عند أصحابها مالا ولا نفوذا ولا تعسفا في سلطة ولا استغلالا لوظيفة ، بل وجدتهم كحال الناس يحتكمون للقانون من أصغرهم لأكبرهم ، فالسلطة لديهم للقانون وليس للمسؤول ، وان المسؤولين أكثر التزاما بالقانون من الرعية ، حتى صاروا نماذج تُحتذى ، وغدا المواطن مسؤولا ، يحاسبك على السلوك غير الصحيح ، واذا سهوت يرشدك من غير فحيح ، بكلمات خفيفة وابتسامة لطيفة يكلمك من دون أن يشعرك انك غريب . ووجدت العمل لديهم مقدسا ، وأدائهم مخلصا ، وخُيل لي أنهم يعملون لبيوتهم ، وهذا ما افتقدناه في بلادنا عند الكثير من المسؤولين والرعية ، ولذلك أيقنت ان العمل المخلص والمبدع بالقيم التي تحكمه ، والقيم لدينا انفرط عقدها ، وفقدت مضمونها ، فتأمل ذلك يا سيدي ، فان لم نُعد ترتيبها ، وغرس الايمان بها ، فإننا للمجهول ذاهبون .
يا أيها الملك الرشيد : عليك أن تضرب من وضع نفسه فوق القانون ضربة قاسمة للظهر تعيد بها للدولة هيبتها وللقانون سيادته ، فمثل هؤلاء يرون في أنفسهم أكبر من الدولة ، وأقوى من جلالتك ، مع انهم كساق عباد الشمس شكله مهيب وداخله ضعيف ، ولم يحدث ان عرفّهم أحد بقدرهم ، فتفرعنوا على الدولة ، وشاخوا على الناس .
اختر يا سيدى للمناصب من يخاف الله ويقدس الوطن ويؤمن بانتمائه لأهله ، فقد كثر الذين يمسكون بزمام الأمور ممن لا تنطبق عليهم الثلاثة التي ذكرت ، لذلك لم استغرب تخلف بلادنا عن بلاد الآخرين . وتراجعها في مختلف الميادين ، فلا تجامل من أجل دوام سلطانك ، فلا العمر أزلي ولا السلطان دائم ، لكل شيء نهاية ، والبقاء لله وما تتركه وراءك من فعل حسن ومنجز عظيم ، ففيهما يخلد اسمك في قلوب الرعية وبطون التاريخ ، ولن يطويهما النسيان ابدا ، ولا أظنك بحاجة لأذكرك بمن نُسيت أسمائهم وتلاشت وجوههم من الذاكرة .
لقد تملكت أصحاب السلطان من قبلك يا سيدي آفة النسيان ، فلم يتذكروا ماضيهم ، وما فعلت بهم الأيام ، وكيف ان المنصب ما كان حتى بين الأحلام ، وعند بلوغهم الولاية ، أداروا الظهور للمظلومين ، وصار مرضاة ملوك الشمع جل غايتهم ، ومن يجعل ذلك هدفا تطارده اللعنات الى يوم الدين .
يا سيدي أعرف حكمتك ورجاحة عقلك ، وأدري انك الوحيد الذي مس شغاف قلوب الرعية ، وأشعرت هيئتك وأفعالك انك من طينة هذه الأرض ، وهم فرحون بما تقوم به ، واستبشروا خيرا بخطواتك ، وعقدوا عليها الآمال ، ولا أظنك مخيبا لآمالهم .
يا أيها الملك السعيد : قيمتان في بلادهم لافتتان ، حرصوا على رسوخها في القانون والوجدان ، وبهما شعر الناس بالأمن والأمان ، وأيقنت ان بفقدانهما تخرب البلدان ، ويضيع السلطان ، ومن قبلك لم يعرهما أحد اهتماما على مر الزمان ، وما هما يا شهرزاد ؟ تساءل الملك بعينين جاحظتين : فردت شهرزاد : الوقت والانسان .