كان الحديث يجري عن الصراع في أوكرانيا، والحرب بالوكالة، ومحاولات كسر الإرادات، والرغبة في إستنزاف الخصوم، والصمود في وجه العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وماعلى الأوكران أن يفعلوه، وماعلى الغرب أن يقدم لكييف لكي تستمر في المعركة، وكان بعض الحديث عن الديمقراطية الغربية التي تحتاح الى التمهل في إتخاذ القرارات الحاسمة، وطبيعة الخلافات الأوربية حول دعم أوكرانيا، والموقف من روسيا، والتباين في وجهات النظر بين الحلفاء، وكان مهما التطرق الى الكيفية التي تتخذ فيها القرارات حيث تنبه البعض الى إن روسيا لاتحفل بنظام ديمقراطي، ولايحكمها الدستور الموافق للنظام الغربي، ولايوجد إرادة شعبية في مواجهة إرادة الرئيس فلاديمير بوتين، لكن العامل الأهم في كل ذلك هو طريقة الإدارة، فالديمقراطية تعني المشاركة الشعبية في إتخاذ القرار، وتحديد شكل نظام الحكم، ومع عدم توفر ذلك للشعب الروسي فإن المتوقع منه التململ، ورفض السياسات التي يتبعها الكرملين.
ماحصل أن العقوبات الغربية لم تثن الرئيس بوتين عن عزمه في مواصلة الحرب، فهو يحتفظ بأهم مقومات إستمرار الحياة، والقناعة لدى العامة، وهي الطاقة ( البترول والغاز ) والأرض الخصبة والمياه مايوفر كميات هائلة من المحاصيل الزراعية، وصحيح أن ذلك لوحده لايقنع تماما أي شعب من الشعوب، بينما تكبر المطامح وتتأجج، في حين إن مايحصل في روسيا هو نظام غير ديمقراطي، لكنه يحقق مستوى من الرفاهية لشعبه الذي يعيش في ظروف يفتقد لمثيلاتها شعوب في بلدان عدة في العالم، وحيث حصن بوتين خزانته بالذهب والعملات الأجنبية، وبمستويات قياسية، فإنه يمضي بإتخاذ القرارات دون الرجوع الى الشعب، ولاأحد يجزم بأن القرارات التي تتخذ في العواصم الغربية، وفي واشنطن تعتمد رأي الشعب حيث وجدنا إن الحكومات تلك تتخذ قرارات صعبة، وتغير في سياساتها المتبعة لضمان تحقيق مكاسب في ساحة المواجهة مع روسيا دون أن تنتظر رأيا يصدر عن العامة من المواطنين الذين لايخفون تذمرهم من بعض إجراءات التقشف، وإرتفاع أسعار الغاز والكهرباء والبنزين. وإذن في الحروب لاتعود الديمقراطية هي الفيصل في القناعة التي تتوفر لدى الشعب، وقد تكون الرفاهية بديلا عن الديمقراطية، إذ يرى البعض إن الرفاهية في العيش تمنع الناس من طرح الأسئلة، والإحتجاج بعد ضمان متطلبات الحياة، وتحول فئات إجتماعية الى فئات مستقرة لاتسأل السلطات كثيرا عن قراراتها ومواقفها طالما ضمنت العيش المستقر، ووفرت الخدمات العامة.
في بلدان عدة توفرت الرفاهية، وحققت نجاحا كبيرا في توطيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث لم يعد الناس بحاجة الى طرح الاسئلة، أو التدخل في شؤون السياسة طالما توفرت لديهم الحاجات الضرورية، وتجاوزوها الى رفاهية ضمنها لهم النظام الحاكم، وهناك أنموذجان مهمان معبران عن الرفاهية والديمقراطية، يقابلهما نظام لاهو ديمقراطي، ولا هو ضامن للرفاهية، ويطبعه عدم الإستقرار والفوضى والتخبط نتيجة عوامل عدة، أبرزها الفساد والتحزب والطائفية والضغائن والمنافسة غير المتزنة، والتسابق على تحقيق المكاسب، وضعف سلطة الدولة وعدم إنفاذ القانون ومحاسبة منتهكي حرمة النظام والدولة، ووجود قوى فاعلة لاتؤمن بالديمقراطية، ولابرفاهية المجتمع، بل تركز على رفاهيتها لوحدها، وضمان دوام الحكم والهيمنة على الشعب المغلوب على أمره.
الأفضل من ذلك كله هو توفر عاملي الرفاهية والديمقراطية لضمان قيام دولة ومؤسسات تستند الى الشراكة في صناعة القرار، وتضمن حقوق الأقليات والفئات المستضعفة، والإعتماد على تطبيق القوانين على الجميع، وعدم المحاباة، أوتغليب مصالح الأغنياء على الفقراء، والتركيز على توفير متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين دون تمييز بينهم على أساس العرق، أو اللون، أو الدين.