قيمتان لافتتان في بعض البلدان ، ولم يولها ملوكنا اهتماما على مر الزمان ، الوقت والانسان ، هكذا بدأ شهريار حديثه مع شهرزاد التي استقبلت كلامه بغنج ، لأنها وجدت فيه ما يدل على تأثره ، اذ أعاد الملك حرفيا نص ما اختتمت به حكايتها الماضية ، بالرغم من قوله لمرة واحدة بلا تكرار . فشكرته على اهتمامه بالقيم وليس بالحكايات التي لطالما سهرت الليالي في رواية حوادثها حتى يغلب النعاس على الملك ، فترتاح من ملل يكاد يخنقها كل ليلة من التفاصيل التي تجهد كثيرا في جعلها مشوقة وجذابة ، فالطريق للإقناع يبدأ من هاتين المثابتين ، ويتعزز بالقدرة على جعل الحكاية تبدو صادقة مع انها من نسج الخيال ، ومهارات أي راو تتجسد في قدرته على جعل الخيال معقولا ، وعندما تقترب حوادث الواقع من الخيال فذاك هو الفشل الذريع في الادارة ، وفي تجاربنا السياسية الكثير مما هو أغرب من الخيال . ففي كل يوم نصدم بما هو غير معقول ، حتى يأسنا من اكتسابنا نعمة الرشد ، فصارت السياسة مجالا لمغامرات غير الراشدين ، والراشد منهم سرعان ما يفقد رشده حالما يعتلي كرسي الولاية ، تأملوا في مسيرة عشرات السنين ان لم أقل أكثر ، ستجدون الراشدين قلة ، والا بماذا نفسر التفريط بآلاف الشباب في حروب عبثية لم نجن منها مكانة او وزنا او اعتبارا ، والحقيقة ان اعتبارنا ليس في حروبنا او فكرنا السياسي ، بل في ثرواتنا التي يكمن فيها مقتلنا ، لذلك يدعو الراشدون الصامتون من الباري أن تجف ثرواتنا ، لنفكر بشكل صحيح بعيدا عن الانفعالات ، وان نفرق بين ادارة الدولة و( فزعة العرب).
اعتذر منكم سادتي لاستطرادي في الكلام وبث بعض همومي لكم ، ربما تعذروني ، فللعمر أحكام ، ومن بين أحكامه كثرة النسيان ، هكذا هي حال الانسان بعد ان تطحنه كروب الزمان ، فأنشغلت بنفسي عما دار بين شهريار وشهرزاد . عموما سألت شهرزاد جلالة الملك : بأي قيمة نبدأ : بالوقت ام الأنسان ؟، مؤكدة ان الاثنتين مهمتان ، فقاطعها طالبا منها ايراد أمثلة من الواقع لتثبت صدق ما تقول ، فأومأت له برأسها وأسدلت عينيها خجلا من الشكوك التي راودته بشأن حديثها ، وقالت : لا يبدع الانسان مالم يكن مسترخيا ، ولا يتحقق الاسترخاء مالم تكن خضرة المكان أكبر من مساحة البنيان ، وقد وثق العارفون هذا الكلام في قوانين المملكة ، لكن يا سيدي انشغل من سبقوك بتثبيت أركان سلطانهم وغفلوا عما يُسعد الانسان ، فسلب النافذون والأقوياء أغلب ما كان مخصصا كمساحات خضراء ، وما كان فارغا لمشاريع المستقبل ، بل واستولوا حتى على مقتربات الشوارع العامة ، وشيدت عليها مبان جلها للاستهلاك وليس للانتاج ، وانت تعرف يا سيدي ان الامة التي لا تنتج ترتهن ارادتها للأجنبي الذي لا يرى فيها الا سوقا ، ومثل هذه البلدان لن يعمها الأمان ، وأقرأ عليها السلام ، وستبقى على مدى الدهر بلا احترام ، وعندما يراك الأجنبي مشلول الارادة لا يتوانى عن حرق حقولك ، وتخريب العامر من مصانعك ، او يضغط لتولية الموالين على ادارتها . فالكثير من مدننا بلا حدائق عامة ، وما موجود فيها استثمارات خاصة ، لا يستطيع ذوي الدخول المحدودة دخولها ، لذلك ظلوا حبيسي الجدران ، وفي هكذا حال ، كيف يكون المزاج رائقا والعقل مبدعا .
يا سيدي يجب أن نقدس الانسان ، كائنا ما كان ، واقعا وليس بالأقوال ، فمن العيب ان تهدر حياة البشر ، ولا نعرف المسؤول عن هذا الهدر ، وان ينال ما يستحق من عقاب ، لا نريد لهذه الجرائم ان تذهب طي النسيان ، ففي نسيانها يتراجع الولاء للأوطان . وجلالتكم يعرف ان الولاء مفتاح لكل أزمة ، وساتر لكل خطب ، وطريق لنهضة الامة ، وتأمل الرعية بخطواتك الميمونة أن يلوح الصباح ، عند هذا سكتت شهرزاد عن الكلام المباح.