أجلس على مقعد في حديقة عامة في إحدى المدن الأمريكية أتأمل المارة في رواحهم ومجيئهم، وأقرأ وجوههم بما أتخيله من معان، منتهياً إلى حكم قام على ما جمعته في حياتي، وأنا اليوم ابن السبعين، من خبرات نفسية وسياسية واجتماعية، وما تخصصت به في شؤون الإدارة والاقتصاد.
في الشهر الخامس من العام 2005 حصل، تزامناً، حدثان: الأول، هو ما أخبرتني به أسرتي في الموصل من أمر اعتقال اخوين لي بعد مداهمتهم، لا بل وانقضاضهم على المنزل من قبل مجموعة جنود امريكان، في غالبيتهم سود البشرة، وهم يصرخون ويهددون ويتسارعون الى اعتقال هذين الأخوين واحداً بعد الآخر.
الحدث الثاني، هو أنني رزقت بولدي الوحيد الذي تأخرت تسميتنا له، وجاءت أخيراً تلك التسمية لتحمل في معناها: السيف المصنوع من حديد الهند: مهند!. وكأني أردت به الوسيلة لتحرير إخوتي من أسر الأمريكان لهما!
أثناء جلوسي في الحديقة، مر من أمامي رجل في منتصف الخمسينات، داكن البشرة، وهو يدور بيديه عربة تجره في سيره. لست أدري ما الذي دفعني لأعتقد أنه كان قد عمل جندياً في سلاح المارينز، وحتى انه كان قد حارب في العراق!
امتلكت الجرأة، وربما شيئاً من الوقاحة، نهضت من مقعدي وسرت اليه. استأذنته بسؤال، وكان مباشراً، بعد أن سلمت عليه: هل كنت قد عملت في سلاح المارينز في العراق؟
كان وقع سؤالي عليه، صاعقاً بعض الشيء، رفع رأسه، وحدق في عيني، وأجاب بصوت متدهج: نعم، وكأن لحن صوته يقول: للأسف!
يعرف الكثيرون كيف يقوم ويسير المجتمع الأمريكي في أحزابه وحكوماته ومحركات اقتصاده واعتماده هرواته العسكرية وحروبه الاستعمارية ودسائسه المخابراتية. وكذلك، ما الذي يدفع بآلاف العاطلين عن العمل والحالمين بعيش كريم، حتى ولو الى حد ما، وفي مقدمتهم ” المواطنون” من ذوي البشرة الداكنة. انها البطالة والبحث عن شيء من الأنا الاجتماعية!
هؤلاء “المساكين” لا يدركون من غرر بهم؟ ومن أجل من هم يقاتلون ويموتون ويعوقون، وحتى كيف سيعيشون؟
غسلوا ادمغتهم بحرية هم لا يتمتعون بها، وبديمقراطية اصحاب رؤوس الأموال، وبحقوق نسبية غير مطلقة.
جاؤوا الى العراق غزاة محتلين، قتلة مأجورين، لا يدركون ما يقومون به. زرعوا في رؤوسهم صورة “الدكتاتور” وأغروهم بحفنة دولارات مسروقة، فنسوا الدماء التي أسالوها والأرواح التي أزهقوها والحقوق التي أهدروها وأضاعوا أحلام الملايين في عيشهم الكريم في وطنهم.
عندما رويت له ذلك، اغرورقت عينا الجندي المتقاعد المعوق بالدموع، وحملني أمانة اعتذاره من أبناء شعب العراق