عرف المشهد الشعري الجزائري الكثير من المتغيرات المتسارعة ولاتزال تظهر متغيرات جديدة فهو يتسم بالنشاط والحركة الدائمة، وربما سنجد ونحن نتابع التجارب الشعرية النشطة حالياً فربما سنلاحظ النزعة إلى الغموض وتفكيك الرموز والتشويش عليها وكذلك النزعة إلى الواقع واعادة قراءته بطرق تبتعد عن التوثيق والمباشرة وكنت قد تناولت سابقاً التجربة الشعرية للشاعرة د. زينب الأعوج وكذلك تجربة الشاعر عبدالله الهامل وهنا سوف أتناول تجربة الشاعرة سوسن محمود نوري، سوف أحاول ملامسة بعض العناصر لهذه التجربة والتي تتقدم بخطوات مهمة وهي تجربة تستحق التأمل والدراسة.
قصيدة سوسن نوري كأنها مجموعة من الهزات الداخلية وبعضها قد تكون مفجعة وتحاول الشاعرة لملمة هذه الهزات وجعلها تعبر وتتجاوز مجرد التعبير عن الذات لتكون ذات تمثلات جمعية، تتعانق مع ألم المجتمع وربما بقراءة وتأمل بعض النماذج سوف تتضح لنا الكثير من العناصر الهامة وإليكم هذا النموذج
نلتقي على ناصية القصيدة
الكلمات كائنات مثيرة للشفقة
لا ( مرحبا) بها في الغابة الملونة
ترتخي الأيدي
يبتلع المحيط المراكب الحاملة ملح الانتظار
تتداعى الموانئ
تتجمد الأنهار قبل بلوغ مصبّاتها
ينفجر الشتاء
ويرمي الثلج عباءة السكون
يبدو شموخ الجبال كذبة
كما يبدو خرافة عنفوان امرأة يستبيح الوله جرابها
كلّ ما حولنا مثير للشفقة
سرادق العزاء المنصوبة وسط المسافة بيننا
السيجارة في فم مومياء توقف بها الكرسي عن الهز أخيرا
الدانتيل الذي يكشف مواطن البهاق على جسد الليل
والمنحدر المزدحم بجماجم الدمى
نلتقي على ناصية القصيدة
نمشي وتمشي القصيدة على عجل
بين كفيها جنيننا الميت
وكفن الحياة
كانت لتكون النهاية أقل مأساوية
لو كان لقاؤنا خارج القصيدة
أو لو نسينا أمر اللقاء.
لو تأملنا هنا، فالقصيدة أشبه بزفرات نفسية فيها الكثير من الذبذات والشكوك والمخاوف لكنها لا تتقوقع بزاوية خاصة وكأننا بالشاعرة ترى ما بالذات وحولها فتولد قصيدة تشابكية بين الخاص والمجتمعي ثم تستشعر الكوني، بالتأكيد التعبير عن الذات فقط ليس عيباً ولا نقصاً فنحن جزء مما حولنا، وقد يكون الشاعر أو الشاعرة عالماً كاملاً.
هنا في هذا النموذج نتلمس تأثيثات مكانية متعددة بعضها قابل للوصف والتصوير وبعضها لامحدود، وهنا تتفجر الشرارة الأولى بمقترح للقاء على ناصية القصيدة وقد يكون الخطاب موجه إلى الآخر أو إلى الذات، وحتى الكلمات لم تعد مادة خام مثالية للتعبير عن هذه الأمواج العاصفة والمقلقة، كأننا هنا بالشاعرة تصور وهي على هذه الناصية ما لا يراه غيرها أو الآخر معها فالرؤية أيضاً ليست واضحة تمام الوضوح وما حولها في حالات انهيارات مفجعة وصادمة، فالسفن والتي ربما ينتظرها الجميع، محملة بالملح ومع ذلك يبتلعها المحيط وكأن ثمة أسئلة غير مباشرة وإذا ما كان هذا المحيط بحاجة للملح الموجود على هذه السفن؟ كأنه ينقصه الصوديوم وما يوجد في السفن من عناصر تساعده على الحياة والحركة، لكن المصابات تتكاثر وتتنوع حيث تتداعى الموانيء وتتجمد الأنهار، أي لا ناصية مناسبة للقاء إلا ناصية القصيدة.
تحاول سوسن نوري شق طريقها الخاص وتنضج تجربتها وقد اصدرت ديوانها الثالث (كاستينغ) ونتمنى أن يتم تناوله نقدياً، وبالعودة للنموذج نرى أن الشاعرة كمن يفيق من صدمة فيجد الخراب حوله (كلّ ما حولنا مثير للشفقة)، الواقع المهتز والمتخم بالفجائع تجعل الموت حاضراً في عالمنا اليوم وهذه الكوارث المتلاحقة تخلق الحواجز وربما تقتل الرغبة وتهدم الملذات، وكأنها تبتعد عن الوصف الممل والحشو لذلك تستعين بمشاهد عبثية (السيجارة في فم مومياء توقف بها الكرسي عن الهز أخيرا) يُغني هذا المشهد بتحركاته رغم أن المومياء جامدة وربما المشهد قاتماً لا تتضح كل تفاصيله لكنه يفتح أبواب التخييل والتأويل وحتى مراجعة النص مرة أخرى، وأخيراً فالخيارات تربكنا وكأنها حيرة الروح التي تبحث عن ملاذ
وحلم وتراجع كل ما حدث ويحدث.
في النموذج الثاني بعض الافصاحات عن رؤية الشاعرة للشعر أي الشعر على الشعر وتعالوا بنا لنتلمس رؤية سوسن نوري:
الشعر يا صديقي لا يولد على آنية تقطير الورد
لا يأتي ليحضن أنفاس الربيع
ليتبع خطى البن
ليسلّم لغواية غجرية
الشعر لا يعنيه إن كان على إيقاع الخليل
أو الروبا
لا يعنيه
إن كانت المقطوعة لعمر خيرت
أو لأسمر يمرّغ هاجسه على تمتمات الهيب هوب
لا تعنيه الأوراق البيضاء
والبراعم الزهرية
لا يعنيه
إن كان الغذاء عدسا يرمم صفائح القصدير داخلنا
أو قطعة ستيك في عرف نباتي
لا يعنيه
إن نصاحب زجاجة فودكا
او فنجان شاي آخر الليل
الشعر ينمو بوجانفيليا
على منفضة سجائر تشاركك السرير
على جلدك
على قطعة طبشور
على جدار يسند ذاكرتك
على غيمة سوداء
الشعر ابن غير شرعي لرجل شرقي
دفقة حزن
وخزة قدر
وشظية خرقاء.
كأنها في هذه القصدة لا تتوافق مع الرؤية الكلاسيكية للشعر وقواعدية الجماليات ونسخ ما هو يبرق ويلمع من الكلمات والصور، هو ليس تقطير أي ترفض أن يكون صناعة يجب أن نحذق فيها وبحذر شديد، وهو ليس الصور والعبارات الجميلة التي تصف الربيع والطبيعة والماء الوجه الحسن وليس الأوزان والكلمات المطربة، ما هو الشعرإذن؟
ترى سوسن أن الشعر لا يتطلب التعقيدات التي قد تخنقه، فهو كلذة روحية وقد يتشكل وينمو بأي لحظة وفي أصعب الأمكنة
الشعر ينمو بوجانفيليا
على منفضة سجائر تشاركك السرير
على جلدك
على قطعة طبشور
على جدار يسند ذاكرتك
على غيمة سوداء.
هذه الأمكنة والأشياء لا تعني ذاتها، منفضة سجائر والطبشورة والجدار والغيمة السوداء كأنها صور تبثها الذاكرة أو يقذف بها حلم يقظة أو منام وكأن الشاعرة تريد توريطنا بمادية الأشياء وهي تعيد قولبة الصور لتُخرج الشعرية والشعر من المستوى المادي وكأنها تريد القول لا نحتاج لمواد خام من ذلك النوع الملموس المحدود وتختم رؤيتها لعلنا نقتنع أو نعارض فهو( شظية خرقاء) ولعلنا سنشعر أنها ربما تقصد شظية من الداخل وهي خرقاء ربما لأنها قد تعود وتصيب الداخل وتدمر بعضه وليس فقط توجهه لتدمير بعض ما يوجد بالخارج من زيف وبشاعة.
في النموذج الثالث والأخير في هذا التأمل العابر وقد شدني هذا النص :
نحب
تمتزج دماؤنا في قالب برونزي
أوردتنا شوارع تزف القلق إلى موته
تتجمع كتلتا الطين
تتشكل على هيئة صليب
على هيئة هلال
تتشكل جسدا بلا أطراف
عند حدود مسامك تسيح أناملي
تغدو يداك كسّارتان
تشقان الجليد بين نهدي
تمطر السماء شفاها
يسمّد لعابك تربتي
فتنضج ثمار الكمثرى مبكرا
وتزهر لحيتك سوسنا بريا
نبدأ طقوس تباشير الموسم الجيد
أنفاس وأنفاس
لهاث ولهاث
لا وقت للدعاء الآن
( أغمرني) ليتعافى سكون الليل
أغفو على عشب بستانك
ويفيق الصبح ربيعا
( أغمرني) كي أضع أسلحتي
سخطي
بكائي
قصائدي
كي أقيم صلاتي في حضرة العِوض
صلاة شكر وخوف
أغمرني كي تستعيد الأيائل شغف الأعياد
ترسم رأس السنة منجم ماس
ترسم دقة تفاصيلي فوضى
ترسمني غابة
والغابة في الفوضى تحيا
لا تموت
كي تطير الفراشات مع ثوبي
وتغمرك غمرة أكثف.
هنا سوسن أكثر شجاعة، تفصح عن فوضى بداخل امرأة وتوقاً لعالم يكون مسالماً، فوضى ترسمها وتحيا وتثور ورغبة تفصح عن موعد لتولد وتقاوم وتنضج.
ثمة اشارات مهمة في النص وهي شجاعة جداً وكأنها توحي بأن الحب والعشق يمكنه أن يلغي الجغرافيا وأكثر من ذلك، لكننا في زمن عنيف وقد يلتحم الحبيبان ويمتزجان ويفقدان أطرافهم وهذا في حال عدم قبول مجتمعهم بهذا التمازج لسبب ديني أو عرقي وحتي جغرافي ولعلها تريد القول ثمة حواجز وتابوهات كثيراً ما تعترض علاقة إنسانية، وبدأت نصها بكلمة (نحب) تمثيل جمعي وليس شخصي ونحب قد يحتمل الماضي بما فيه من حكايات عشق وألم وبعض الحكايات ارتفعت لمرتبة الأساطير، وكذلك يحتمل الفعل حاضرنا وواقعنا بما يزخر به من متناقضات ليس على مستوى وطننا العربي فقط بل عالمياً تشتد وتتنامى التيارات العنصرية وقد ترفض هذه الأصوات ما تصرح به الشاعرة (تتجمع كتلتا الطين) مادة الخلق والأصل هو الطين وربما كلمة (كتلتا) وكأنه فكرة تنتصر الشاعرة لنفسها وليست مخلوقة من ضلعة الأعوج ولا أدري إن كانت الشاعرة فكرت في هذا أم لا وحتى لو أنها لا تعني هذا فأي نص شعري إبداعي قد يوحي ببعض الأفكار المجنونة لبعض متأمليه وهنا التأمل والتخييل قد يبني أكبر مما جاء في النص وحتى أكبر مما حدث في خيال مبدع النص وهذا ينطبق على مئات من الإبداعات الشعرية والفنية والسينمائية خاصة الاتجاهات الفنية الرافضة للعقل والمنطق والتي ترى أن الإبداع نشاط روحي قد يعيد تسطير الأساطير ويخلق خرافاته الخاصة.
ختاماً نقول نحن مع إبداعات شابة تسعى أن تشق طريقها والشاعرة سوسن نوري من النماذج البديعة وهي تسعى أن تضع بصمتها الخاصة بعيداً عن النسخ واللصق من تجارب الآخرين وكأنها تنسخ من روحها وما يحدث من فوضى داخلية بذاتها وتجربتها الشعرية تحتاج إلى المزيد من التأمل والتناول النقدي ففيها الكثير من الفخاخ والتوريطات المثيرة للخيال والتخيلولكل امرأة وتعيد تسجيل ملاحظتها وقد يؤدي بنا الفهم إلى خلق فكرة بديعة وخلاقة أي المرأة ذات كيان روحي ونفسي مقدس مثله مثل الرجل

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *