تبدو المملكة العربية السعودية في الطريق الى اسلوب إدارة سياسية مختلفة عن السياسة التقليدية المتبعة على مدى عقود كان العالم فيها محكوما بالقطبية الأحادية، وقد ترسخ الحكم في المملكة بعد الحرب العالمية الثانية مع بزوغ نجم الولايات المتحدة التي حاولت أن تظهر الرياض تابعا لسياساتها العسكرية والإقتصادية، ومواقفها المعلنة من قضايا عدة في الشرق الأوسط دون المساس بالمواقف الثابتة تجاه القضية الفلسطينية التي تمر بمنعطف جسيم هذه الأيام، مع تغيرات كبرى يشهدها العالم، وإتفاقيات تطبيع لاتبدو الرياض متحمسة للخوض فيها، ومع شيخوخة النظام السياسي الأمريكي، وتعددية الأقطاب المهيمنة على العالم، ومع نضج السعودية وظهور قيادة شابة طموحة تمتلك الجرأة في إتخاذ القرارات في قضايا محل جدل ونقاش كبير كالحرب في أوكرانيا، والمصالحة مع إيران، والتوجه نحو الصين لعقد شراكات جديدة، فإن الأمور تأخذ مسارا مختلفا تماما يشير الى ظهور قطب عربي يمتلك عناصر الزعامة ليس لضعف دول عربية تقليدية برغم ماحصل فيها من مشاكل، وماواجهته من تحديات، بل لأن المملكة العربية السعودية تمتلك مقومات الزعامة، وتتخذ تدابير سياسية وإقتصادية وفكرية تؤكد تقدمها بخطوات بعيدة عن دول شقيقة تعاني الحروب الأهلية، والأزمات الإقتصادية، وسوء التخطيط، وترهل الإدارة، وعدم القدرة على حل مشاكلها الداخلية كما ينبغي، وهي لاتجد القدرة على إتباع سياسية تنموية واضحة لأسباب تراكمت لفترات متطاولة، وصارت سمة غالبة فيها، وأضعفت الأمل في إحداث تغيير حقيقي.
تمتلك المملكة العربية السعودية إحتياطيات نفطية هائلة، ولكنها قررت المضي قدما في سياسة تنموية وإقتصادية غير تقليدية فاجئت المراقبين من شأنها زيادة حجم الإيرادات من قطاعات غير النفط كالسياحة والزراعة والإستثمار الصناعي، وفي قطاع النقل والتجارة، وإستقطاب الشركات الكبرى للعمل في الرياض للمساهمة في نهضة إقتصادية شاملة تمنح قوة مضافة لمركز القرار السياسي، وهو ما تجلى في الموقف من قرار منظمة أوبك التي خفضت إنتاجها من النفط لأكثر من مرة متحدية مواقف معلنة من الغرب والولايات المتحدة الامريكية، وتجلت كذلك في إستقبال لافت للرئيس الصيني الذي عقد قمة مع عدد من الدول العربية دون مبالاة من رد الفعل الأمريكي والأوربي الذي أشره عدد من النواب في الكونغرس من الجمهوريين، والذين لفتوا الى أن إدارة الرئيس بايدن تأخرت كثيرا في ترميم العلاقات مع المملكة، وتسببت في خسارة وتهديد للأمن القومي الأمريكي على صعد شتى.
مامن من شك إن التاريخ، وقوة الإقتصاد، ونوع التحالفات، والقيادة الفاعلة من عوامل نهضة الدول، وهي عناصر توفرت لدول عدة عربية وإقليمية، لكن ذلك لم يكن كافيا مع حجم الإستنزاف السياسي والإقتصادي الذي أرهق كاهل تلك الدول، وأضعفها، وحجم من قدرتها على التأثير في مسار الأحداث، في حين تمكنت الرياض من إستدراك جملة تطورات بدت وكأنها تؤثر في قدرتها على تسيير علاقاتها الأقليمية والدولية، وحولتها الى مكاسب حيوية مستفيدة من تراجع السياسة الغربية وضعفها في مقابل صعود لافت لروسيا والصين ودول البريكس التي تنفلت رويدا من عقال الهيمنة الإقتصادية والسياسية للولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات، ولاتبدو الدول العربية الأخرى في معرض التأثير السلبي في هذا المجال لثقتها بقدرة الرياض على إدارة الأزمات والتحالفات، ومواجهة التحديات حتى مع وجود نوايا تخالف ذلك، دون الجرأة على التصريح بها، فالمعيار ليس النوايا، بل القدرات، وإذا إجتمعت النية مع القدرة أنتجت التفوق، لكن النية الحاضرة مع القدرات الغائبة لاتنفع في تحقيق المكاسب المرجوة.