لا امتلكُ إحصائيةً رسميةً عن عدد الصحفيين الشجعان الذين استشهدوا في البلاد بعد دخول الهمرات الأمريكية إلى قلب العاصمة بغداد، لكنَّ الدم الزكي للضحايا من الصحفيين الأبرياء يكادُ يملأ الصحف وشاشات الفضائيات. الغريب في الأمر أنَّ الجهات الأمنية لمْ تتمكن من معرفة قتلة معظم الصحفيين المغدورين حتى هذه اللحظة؛ وأنَّ معظم تلك الملفات سُجّلَتْ في مراكز الشرطة ضدَّ مجهول وطواها النسيان؟ وإذا كان القلم الصحفي الحر والشجاع مازال مصرَّاً على هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر بحثاً عن الحقيقة، برغم أنَّ ما يحصدهُ من هذا العمل النبيل هو النكران الواضح لجهوده من قبل المؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية، وخير برهان على ذلك هو تسويف حقوق الصحفيين بالحصول على قطعة أرض من قبل دوائر البلدية؛ منتظرين من المحافظين وهم أصحاب القرار نفخ الغبار عن هذا الملف الذي يكاد يندثر نتيجة الإهمال والنسيان ومنح الصحفيين استحقاقهم المادي والمعنوي. إذْ ليس من المعقول أنَّ صحفيَّاً مثلي أفنى أكثر من ثلاثين عاماً في معترك الكتابة الصحفية وفاز بجوائز غير مسبوقة في هذا المجال؛ لمْ يحصل على قطعة أرض حتى الآن؛ بالوقت الذي امتلك أشباه الصحفيين الأراضي وفي مواقع ممتازة! وفرقٌ كبيرٌ بين صحفي لا يعرف أبجدية الكتابة ومعاناة هذه المهنة الجليلة وصحفي كتب مقالاته في أتون الحروب وقسوة الحصار وعاش رعب المطاردات الأمنية في سنوات النظام السابق. ربما هو ذات الفرق بين الذي يكتب مقالاً جريئاً وهو يعيش في داخل جحيم البلاد وبين صحفي مثلي أصبح يكتب عن هموم البلاد من مهجره البعيد. حيث أنَّ مسدس كاتم الصوت الذي يتربَّصُ لاصطياد قلم ورأس الصحفي في الداخل لهو أكثر خطورة كما نعلم من قلم يكتب مقالاته مطمئناً من خارج البلاد. ولذا نجد أنَّ صحفي الداخل يحاول تجنب الذهاب إلى أهدافه مباشرة؛ كما يحرص ألَّا يعلن عن المثالب والأخطاء بمسمياتها الصريحة ولهُ الحق في ذلك خشيةً على حياته من غدر الظلاميين وما أكثرهم في البلاد، بينما نجد الصحفي في المنفى يكتب بالقلم العريض كما يقولون؛ ومن دون مجاملةٍ أو خشيةٍ من أحد؛ لإحساسه أنَّ حياته بمنأى عن خطر الاغتيال بمسدس كاتم الصوت، برغم أنَّ الظلاميين إذا ما قرَّروا الانتقام من هذا الصحفي المنفي ولم يجدوا سبيلاً من الوصول إليه، ستراهم يغيرونَ على ما تبقَّى من عائلته في داخل الوطن وتهديدها بطرقٍ دنيئةٍ وجبانةٍ؛ وليس بعيداً أنْ يتمادوا هؤلاء الظلاميون بحقدهم ويطلقون رصاصهم المسعور على أحد أفراد عائلته هناك انتقاماً من قلمه الذي لا يتوانى عن فضح جرائمهم وفسادهم بشكل علني إلى الناس. لقد لاحظتُ بحكم مراسلاتي المتبادلة مع بعض الزملاء الصحفيين النبلاء في داخل البلاد. إنَّ أغلبهم ينتابهُ القلق بعد نشر مقالهِ في جريدة ما، خاصة إذا كان ذلك المقال يحمل في سطوره كشف صفقة فساد ما، بلْ إنَّ بعض الزملاء الصحفيين يضطر إلى تغيير مكان سكناهُ لأسابيع وربما لشهورٍ لحين ابتعاد شرور قوى الظلام التي كانت تحوم حول منزلهِ. وبهذا الطقس المشحون بالرعب والقلق والتوتر نقول كان الله بعون الزملاء الصحفيين هناك وهم يشهدون كل يوم جائحة صفقات الفساد في الوزرات والمؤسسات الحكومية والتي وصلت إلى حد التباهي بتلك الصفقات فيما بين المنتفعين منها. إنها بلوى ومعضلة تعيش مع هواجس الصحفيين هناك والذين لا سند لهم سوى قلمهم الشجاع ورحمة الله، ولذا بتُّ ارتاب من حقيقة الحرية التي تتمتع بها الصحافة في داخل البلاد؛ كأنَّ الصحافة في وطني مازالت على كفّ عفريت؛ وإلاَّ بماذا أعلّل هذا القلق والرعب الذي يعيشهُ الزملاء الصحفيين هناك؟ لكنهم مع كل تلك المنغصات والتهديد الذي يتربَّصُ بهم مازالوا يصرُّون على كتابة مقالاتهم وتقاريرهم الصحفية وتحقيقاتهم عسى أن يجدوا المسؤول الذي يقرأها ويبدأ معهم بمرحلة جديدة لبناء البلد حقاَّ. ومن هنا أطالب رئاسة الوزراء بتشكيل لجنةٍ خاصةٍ تتصفُ بالنزاهة وتتابعُ بإخلاصٍ وعن كثبٍ وبلا ملل ما تنشره الصحف من هموم وشكوى واستغاثة للمواطنين ويعلن عن تلك اللجنة من قبل وسائل الإعلام؛ مثلما أطالب الصحف الرصينة بتخصيص صفحة كاملة لنشر معاناة ومظلومية المواطنين الذين تقطَّعت بهِم السبل وما أكثرهم في البلاد. كان الله بعون الصحفيين وهم يضعونَ حياتهم في كل يوم على كفّ عفريت؛ وأيُّ عفريت لو علمتم أيها القراء الأعزاء؟ إنَّهُ عفريت منسوج من كاتم صوت وظلام وغدر وحقد وشرور مميت أبعدكم الله عن بلواه.