لم تكن العِمامة قديماً، عند العرب، تخص فئةً مِن النّاس، وليس لألوانها دلالاتٌ دينيَّةٌ، وأول مَن جعل السوداء منها زياً رسمياً أبو جعفر المنصور(ت: 158هـ)، مع سواد الرَّاية أيضاً(العسكريّ، كتاب الأوائل). ثم انتقلت وصارت زياً لرجال الدِّين الشِّيعة الإماميَّة، المنتسبين لسلالة النُّبوة. بعدها صار لكلِّ مذهبٍ عمامتُه، حتَّى رأينا في إحدى ملتقيات الحوار الدِّيني رجلاً يعتمر عمامة خضراء، وفوقها مجسدٌ للقبةِ النَّبويَّة.
كثرت أخبار العمائم في كُتب الأدب العامة، وكُتب تشريفات الخلافة، ومَن أفرد لها كتاباً خاصاً: «دفع الملامة في استخراج أحكام العِمامة» لابن المُبرد(ت: 909هج)، جمع فيه أطرزة العمائم واختلافها. كذلك صدر كتابُ «العِمامة» أعده سعود الرُّومي(الرِّياض 2014) لم يترك كبيرةً ولا صغيرةً في العمائم إلا ذَكرها. ولم أجد بينها طرازَ عمامةٍ رأيتها بهيئة مختلفة، ولحقتُ الرَّجل في أزقة سوق القلعة بأربيل، مِن زمن بعيد، وسألته عن شأن عمامتهِ؟! فقال: «يا ولدي، نحن في موسم الأمطار، لذا غلفتها بالنَّايلون كي لا تبتل». قالها بأريحيّة معهودة عند العديد مِن رجال الدِّين غير المتحزبين.ظل السُّودانيون والعُمانيون واليمنيون متمسكين بها، دون شرطها الدِّينيّ. بقدر ما كثر معتمرو العمائم كثر خالعوها، وصلةٌ بخلعها أثير الجدل حول مقالتي عن الشَّاعر السُّعوديّ محمَّد العلي: «جِدَّة.. تُكرم العليّ زميل مروة بالنَّجف»(الاتحاد 21/12/2022) مَن نفى صلته بحسين مروة(اغتيل: 1987) وَمن أنكر تعممه، لكنّ ما عرفته أنّ الرَّجل درس بالنَّجف وتعمم، ثم تخلى عن عمامته، وهذا شأن مروة أيضاً، وأخذتُ الزَّمالة في المجال العام، فكلاهما درسا بالنَّجف، وكلاهما لم تصمد العمامة فوق رأسهِ. خلعها مروة قُبيل نزوله بمحطة أور/النَّاصريَّة (بعد 1940) ليستلم وظيفته مدرساً للأدب العربيّ بثانويتها(مروة، خبايا السّيرة)، ولم يعد لها، بعد أغراه الفكر الاشتراكيّ.
استبدال الطربوش
أمَّا معروف الرُّصافي (ت: 1945) فخلعها بإسطنبول مكرهاً، حين وصلها في الانقلاب الاتحاديّ (1908) فحصل استبدال الطَّرابيش بالعمائم. دخل مقهى أحد السوريين فطرده، حتى وجد دكان ملابس، فارتدى بذلةً حديثةً واعتمر طربوشاً، تاركاً جبته وعمامته عند صاحب الدُّكان(الرُّصافيّ، يروي سيرته)، ثم عشق أبا العلاء(ت: 449هـ) حتَّى ناجاه «يا أبتِ» وسمَّاه بشاعر البشر والمخلوقات(الرُّصافي، رسائل التعليقات)، ففارقها نهائياً. بينما ظل جميل صدقي الزَّهاويّ(ت: 1936) يناور بين الطَّربوش والبنطلون ليلاً، والعِمامة والجبة نهاراً، فهو ابن المفتي وأخو المفتي، حتّى اعتنق نظرية أصل الأنواع وافتخر أنه أدخل دارون إلى العراق(الرُّشوديّ، الزّهاوي دراسات ونصوص)، فجفا العمامة إلى الأبد.لم يقتفِ الرُّصافيّ ولا الزَّهاويّ أثر رجال الدِّين بتركيا ومصر والشَّام، لما سُمح لهم الاحتفاظ بعمائمهم بشرط يتوسطها الطَّربوش الأحمر، وظلوا هكذا إلى يومنا. أمَّا محمد مهدي الجواهريّ(ت: 1997) فعمل مدرساً، وفي البلاط الملكيَّ، والعِمامة على رأسه، حتّى قال وتخلى: «قال ليّ صاحبي الظَّريف وفي/ الكفِّ ارتعاشٌ وفي اللِّسان إنحباسة/أين غادرت عِمةً واحتفاظا/ قُلتُ طرحتُها في الكُناسة»(النَّزعة: 1929).
وافقني أحد المعممين أنه قصد المحلة المعروفة بالكوفة، حيث صُلب زيد بن عليّ(122هج)، ولهذا قيل: «إنا وجدنا قفيراً في بلادكم/أهل الكُناسةِ لأهل اللؤم والعدمِ»(الحمويّ، معجم البلدان)، أو أنَّه ترك المعنى مشرعاً!
بسبب الإقامة الطَّويلة بطهران وقُمّ، والدّراسة في الحوزات الدِّينيَّة، تزايد عدد المتعممين بالعِراق، وبسبب الوضع الذي تتصدره الأحزاب الدِّينيَّة، والخطاب الهابط، والزيادة في الفساد، كثر أيضاُ خالعو العمائم، وبينهم مَن يتبوأ الآن الدَّعوة العاقلة إلى التَّنوير والتَّقدم، بالمقابل منهم مَن شطح وجهل «فوق جهل الجاهلينا». هذا، وبينهم مَن انقلب على شروط عمامته، لكنه ظل يعتمرها، سوداء أو بيضاء، سلاحاً في الجدل، متقلباً بين اعتمارها وخلعِها.