يتغير طريقي في فصل الصيف فأتخذ شارع حيفا سبيلا بديلا رغم طول الالتفاف عليه لتحميني أقواس بناياته وبما تنشره من ظل بارد يقينا الحر اللاهب، قبلها تنثر أشجار وزارة الثقافة وأسيجتها الحديدية السوداء بأسنة الرماح ظلا آخر، لكن شرطة الوزارة المتجهمة تحمي هذا الظل كأملاك دولة فأهرب منه صوب شمس الله والشعب رغم حريقها .
ما أن عبرت المجال المكهرب للوزارة حتى تذكرته فلم أره منذ شهور وربما عام، رجل شرد لتوه بدليل ملابسه النظيفة بدءا بالعقال الذي تخلى عنه لاحقا وأغراضه البسيطة لكن المرتبة والنظيفة.
اختار الظل المتشابك بين الوزارة وأولى بنايات شارع حيفا وبدأ واثقا من نفسه بدليل إفراده ليديه عندما يمشي ثم انكسرت نظراته وخبا بريقها وكما قلت تخلى عن عقاله وعباءته وحالت ألوان دشداشته أو بالأحرى دشداشتيه، الأولى بلون الحرب التي يشنها العالم عليه والأخرى لونها غريب يميل إلى البنفسجي متأملا نهاية سعيدة لتشرده ما أن ألتفت إليه حتى تغمرني نظرته الخاصة فأهرب منها وكأنه يقول لي أنا مستقبلك يا هذا وفي كل يوم أقرر أن أتبسط معه في اليوم التالي وربما مساعدته بما يتيسر لكن ثقته بنفسه ونظرته الاستباقية المشؤومة تبعدني عنه واليوم فقط فهمت نظرته فلقد كانت مناشدة وربما أول مناشدة له فحملي لكتاب دوما وهيأتي أوحت له أنني موظف في وزارة الثقافة وربما وزيرها لا سامح الله فلعلي أجد حلا لمحنته.
اليوم صباحا وأنا أتحرر من عسس وزارة الثقافة جاء على بالي وقلت بنفسي ماذا حل بالرجل وهو بعمري تقريبا ولما ركزت على المكان الفارغ الذي كان يفترشه لمحت كتابة على حائط البناية الأولى وهي الأقرب للوزارة ، الكتابة كانت بخط جيد وبدون أخطاء إملائية وفيها بعض البلاغة والحقيقة هي كتابتان أو مناشدتان وبلونين مختلفين، الأولى بالأسود وهي الأقدم كما يبدو والأكثر أهمية وهي تخاطب وزارة الثقافة وبالذات الشاعر مكي الربيعي ومن خلاله الوزارة وتقول أنا الشاعر محمود النجار من شمر جربه عيب على وزارة الثقافة أن ينام عراقي على الأرصفة.
الثانية كتبت بخط واهن العزيمة وببلاغة أقل وعلى عجل وبلون بني يشبه لون دشداشته الحربية الأولى ويبدو أن صاحبنا كتبها بعد أن خاب ظنه بالشاعر ووزارته فناشد جهة مسلحة نافذة بصريح العبارة وبنفس الكليشة فهل تقبل مروءتكم بأن يبيت عراقي في الشارع منوها إلى نسبه.
توقفت كثيرا أمام المناشدتين حتى انتبه المارة لأمري وخفت من شرطة الثقافة أن أصورها ومضيت لحال سبيلي وأنا أفكر..هذا الرجل ناشدني فخذلته وناشد الشاعر ومن خلاله وزارته فخانته ومن ثم ناشد تلك الجهة المتنفذة ومن بعدها الله ومن ثم اختفى فمن من الاثنين لبى دعاءه أو اختاره قريبا .