قررت الوقوف في ظل شجرة الزيزفون التي لاتوجد في اماكن عدة من بغداد سوى على جانب الشارع الواصل بين باب المعظم ومنطقة الكسرة وكانت تنظر في اوراق الشجرة التي لها صويحبات وتذكرت الرواية الشهيرة ( تحت ظلال الزيزفون ) او ( ماجدولين ) وهي رواية ترجمها عن الفرنسية (مصطفى لطفي المنفلوطي ) وفي اغلبها رسائل من ماجدولين تعبر فيها عن وجد وشوق ورحيل ورغبة وامل وكلمات معبرة عن حزن وأمل في نفسها التي تسكنها غربة لاتكاد تنتهي بل كأنها تطبع تلك النفس وتتلمس طريقها فيها وتستولي عليها ولاتعتقها الى الأبد وتصاحبها مثل ظلها وكأنها ترتهن إليها دون أن تمنح فرصة للعتق والخلاص.
كانت تقف وتلتقط ذكرياتها القريبة عن بغداد لكنها كانت تستجلي ماضي تلك المدينة قراءة ونظرا وسماعا عن حياة وامنيات عن سيدات وشابات مجتمع مخملي في العهد الملكي وماتلاه من عهود حكم وعن حياة الارامل والمطلقات والتائهات والنساء المعنفات والفلاحات والباحثات عن امل وعن تلكم الفتيات التي سمح لهن بالعمل والدراسة والسفر وهي فرص لم تكن كبيرة ولاكثيرة ولكنها كانت تعبر عن مجتمع متناقض لكن فورة التغيير فيه تتصاعد والتحديث والمعرفة ومعاهد البنات والجامعات والمنتديات تحقق حضورها وتغير شكل بغداد وعلى الأقل في مركز المدينة والنوادي الإجتماعية القليلة التي كان يفصلها عن المجتمع النسوي البائس مسافة هائلة يصعب قطع أشواطها دون تعب ومعاناة وإعياء وربما صدمة وفشل ونكوص آخر.
فجأة وكأن غصنا تهاوى على رأسها الرقيق ومزق بعضا من ردائها وربما شج جبهتها البيضاء وكحل عينيها ببرق الدم وحبات من العرق الرقيق تتهادى من جبين صفعته شمس الظهيرة على إستحياء وكأنها تتغزل به. فجأة عادت الى زمنها هذا ونظرت في الشارع الهاديء إلا من صخب بعض السيارات وصراخات بعيدة للمارين على رصيف الشارع فهي تعيش الزمن الراهن الذي يشوبه ميل الى التطرف من الجميع فلاأحد مستعد لتقبل الآخر ويريد منه الإستسلام والركون إلى رأيه وهنا شعرت بأن بينها وبين حريتها الكثير وبينها وبين سعادتها مسافة يقف على جانبيها ملايين من الرجال المدججين بالرفض والتجني والمنع والتهديد بعقوبات قاسية في حال اصرت على المضي في الطريق وعدم الإستسلام ورفع الراية البيضاء ومد يديها لتقيدا بأصفاد العبودية والخضوع لما يملى عليها والقبول بحياة لاترتضيها قيم الإنسان المتحفز الى التغيير والبناء والعمل وتحقيق المنجز وعدم الوقوف على ماتحقق بل السعي لتحقيق المزيد.
هي لاتريد ان تستسلم لكنهم أبلغوها أن المسافة الى الحلم بعيدة تتخللها الطرق الوعرة والمنحدرات وفيها ثعابين وعقارب وقطاع طرق وكأنها الأميرة التي تريد أن تصل الى بغيتها وفي طريقها يقف المستحيل متحديا ولأنها إمرأة قررت أن تمضي الى نهاية الطريق فربما كانت هناك شجرة زيزفون أو تفاح أو شجرة تمنحها الظل لتستمر في التفكير إنها ليست مجرد إمرأة بل هي إمرأة رائعة.