كررت في مقالات سابقة ان الاستراتيجية التربوية تتألف من محورين هما hardware و software. اي الجوانب المادية والجوانب التربوية.
يتألف الجانب الاول من المباني المدرسية، وتأثيثها، وتوفير الاجهزة الضرورية مثل الحواسيب والمختبرات، وطباعة الكتب .. الخ.
اما الجانب الثاني فيتألف من “المحتوى المعرفي والتربوي والقيمي” الذي يراد للمدرسة ان تربي الطلاب عليه.
وقد قرأت الاستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم التي اعلنتها الحكومة مؤخرا فوجدتها ان تركز بشكل اساسي على المحور الاول (المادي) من العملية التربوية، وهذا امر جيد. لكنها اهملت الجانب الثاني (المحتوى) باستثناء جملة او جملتين.
لكن الاستاذ الجامعي الصديق اسحاق الموسوي كتب لي يقول:
“ارى انه اذا كان هدف الاستراتيجية للتعليم والتربية التي يدعو لها الاستاذ الشبوط المحترم هي تكوين جيل ( مؤلف من مواطنين فعالين يؤمنون بأسس الدولة الحضارية الحديثة كالمواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث ) كما جاء في مقالة الاستاذ المعنونة بـ(الاستراتيجية الوطنية ) فإن ما يجري في الواقع هو نفس ما يدعو اليه، فإن التعليم والتربية والتثقيف على هذه الاسس والقيم جارٍ فعلا في جميع المراحل الدراسية من الابتدائية حتى الجامعة وليس حتى الثانوية بل يزداد التثقيف على هذه الاسس في الجامعة بشكل مكثف ومركز بسبب الحجم الكبير من التدريسيين والاساتذة المتبنين لهذه الاسس والقيم والتي يعملون تطوعاً وحباً على نشرها وتثقيف الطلبة عليها. فالواقع العملي الملموس هو ان الكثير من الكوادر التربوية والتعليمية تعمل على غرس هذه القيم والاسس في عقول الطلبة ونفوسهم. فليس المهم ان تسمى هذه الاستراتيجية بهذا الاسم او ذاك مادامت المضامين واحدة. كما انه ليس مهما ايضا ان تتبنى الدولة مضامين هذه الاستراتيجية او لا، مادام الواقع العملي هو تنفيذ وتطبيق لهذه الاستراتيجية. انا كأستاذ في الجامعة ارى واسمع الكثير من الندوات والمؤتمرات والورش والرسائل والاطاريح التي تتبنى هذه القيم والاسس وتدعو اليها وتعالج اسباب عدم اكتمال الاخذ بها او اخفاقها هنا وهناك وتدرس العوامل التي تؤدي الى تفعيلها وترسيخها كثقافة في الاجيال الحالية لتصبح مرتكزات في تفكيرهم ومناهج تعاطيهم مع الاحداث والوقائع.”
وهذا امر مفرح وجيد جدا. لكني لا اتفق مع قول الاستاذ الصديق “انه ليس مهما ايضا ان تتبنى الدولة مضامين هذه الاستراتيجية او لا”، لان المسألة التربوية هي من اهم اختصاصات الدولة التي لا تقل في اهميتها عن السياسة المالية او الدفاعية او العلاقات الخارجية، ولا يمكن ان تترك للاجتهادات الشخصية والمبادرات الفردية التي يقوم بها الاساتذة والمدرسون. ومن هنا اهتمت الدول كلها او معظمها بهذا الامر. ولا اعرف دولة تركت حبل المسألة التربوية على الغارب، ربما منذ الثورة الفرنسية (١٧٨٩) الى اليوم. ومن هنا اصراري على ان تتضمن الاستراتيجية الرسمية نصوصا وشروحات واضحة ومحددة فيما يتعلق بالجانب التربوي، مع النص بوضوح على ان هدف الاستراتيجية هو تنشئة اجيال من الشباب المؤمنين بمنظومة القيم الحضارية العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة وهي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. وهذه المنظومة هي الاساس في تنشئة المواطن الفعال وبناء المجتمع المنتج واقامة الدولة الحضارية الحديثة، اي دولة المواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث، دولة الحرية والعدالة والمساواة، والتوظيف الامثل للثروات الطبيعية. هذا ما قامت به كل الدول التي سارت في طريق التقدم والازدهار وتعظيم الانتاجية وتحقيق الرفاهية والخدمات لمواطنيها. انها ليست مسالة ايديولوجية يؤمن بها هذا الفريق ولا يؤمن بها ذاك الفريق، انها الضرورة الحتمية لكل انسان. وفي مجتمع اسلامي تقليدي لا يمكن التذرع بان هذا يخالف الاسلام لان جوهر القران هو تلك المنظومة القيمية العليا الحافة بالمركب الحضاري.