عبد الغني المخلافي صوت شعري قد يتجاوز في الواقع اليمني والذي ندرك فداحته جميعاً، وما يخلقه من صور ومشهدية قد يُولد ببطئ فقط في البداية وكأنه يريدنا أن نطمئن أن كل شيء سيكون على مايرام ثم تتفجر العديد من الدلالات وقد يجنح إلى البعيد وعالم الحلم ليحلق كما يحلو له دون رقيب وقد نعجز عن محاسبته في خياراته والتي قد تجنح إلى فنتازيا فيها من الدهشة والفجائع وحتى في نصوصه القصيرة والقصيرة جداً يمارس الألعيب الحلمية وكأن ثمة رغبة للهروب من الواقع وكل حكاياته المؤلمة وإليكم بالبداية هذا النص القصير:ـ
أحتَسِي الشَّاي وأنفثُ ماضِي
الذكرياتِ البعيدة.
أُصغِي بخشوعٍ متناهٍ
إلى صوتِ الرعد.
ثمَّةَ نجمةٌ وحيدةٌ
تمارسُ وَمِيْضَهَا الخَافِتَ
ضدَّ قلبِي.
هنا الشاي كعادة يومية، والنفثُ هنا ربما لدخان سيجارته ولكنه حذفه وأبدله بالماضي وكأنه يريد أن يتحرر من هذا الماضي أو يحرقه كما تحترق سيجارته وكذلك يرمي بحطب الذكريات البعيدة وكأنها تثقل كاهله، الذين يعيشون في البلاد المؤبوة بالحرب فاليوم فيها قد يكون بألف شهر وكذلك ما يحدث في هذه الأرض يجعل أبصار الجميع تشخصُ إلى السماء وتسترق السمع وكأن شاعرنا يفعل هذه العادة والتي قد تكون في كل لحظة.
أُصغِي بخشوعٍ متناهٍ
إلى صوتِ الرعد.
وهنا كأن الزمن ليلاً وثمة صمت وربما ظلام دامس وربما قبل بزوغ الفجر، وهكذا يضعنا الشاعر بموقع المشارك ومساحات للتخيل، يصغي وبخشوع وكل ما تحمله كلمة خشوع من فتح أبواب التخيل اللأمحدودة، إنه الرعد إذن، أي المباشر بالمطر وربما يُحتمل التبشير بمتغيرات سماوية وأرضية، لكن ثمة حدث يتشابك مع هذا الحدث، وميض النجمة أي الحلم بأي وميض جميل وهذا حلم من يعيشون المخاوف من وميض القذائف ووهج الصواريخ والرصاصات الطائشة والحارقة، لكن هذه النجمة والتي كأنها تمارس لعبة التخفي والظهور أو قد تكون النجمة شيئاً آخر مختلفاً وربما يكون طيف الحبيبة وقد يكون الوميض من داخل القلب.
ننتقل إلى النموذج الثاني وهو من مجموعة ـ جباهٌ طافحةٌ بالقصائد ـ قيد الطباعة في هذه التأملات:ـ
وقاية
ــــــ
تبقى الفصولُ من حولي
بين كَرٍّ وفَرٍّ،
يحيطُ بيَ النّملُ كأنّي
قطعةُ حلوى،
لا أكترثُ من الأوبئةِ
بعدما صارت
الحربُ من أخطرِ الفيروساتِ؛
جرعةٌ من الحبِّ
تقيني شرَّ المرضِ.
أفتحُ منافذِي فوقَ منابعِ الضّوءِ والألوانِ والموسيقى،
أركضُ في حقولِ الشِّعرِ
ومحاصيلِ المعرفةِ،
ألتقطُ الكلماتِ الشّاردةَ والواردةَ
بشفافيةٍ عاليةٍ،
أجوبُ آفاقَ الصّحوِ وسماءَ اليقظةِ
في الانقضاضِ على الواجهاتِ
المضيئةِ،
لا أُغمضُ أعينَ حواسِي
أتجنّبُ غيبوبةَ الوعي
في قلبِ المرايا،
أتدرّبُ على سلوكِ الوئامِ
أعيشُ مع جماهيرِ الفقراءِ والبسطاءِ
والمواساة
لوجهِ القمرِ الباهتِ والشّمسِ الحزينةِ،
أعانقُ أرواحَ الأغاني
ونبضَ النّاياتِ
بعيدًا عن تيّارِ الأوجاعِ
وقصفِ العواصفِ.
وهنا يأتي أسم الحرب ويذكرها الشاعر بشكل صريح، كأن الكون هو الآخر في صراع، أو لا طقس ثابت ولا مناخ مستقر، كل شيء (بين كَرٍّ وفَرٍّ) وهذا بالتأكيد ينطبق أيضاً على ما يحدث فعلياً ليس بين فصل وفصل ولكن ربما ما بين كل لحظة ولحظة وقد تفعل الحرب أكثر من ذلك فحتى النمل المسالم والضعيف قد يتوحش فما بالكم بالبشر.
تتكاثر الصور والأحداث بعضها ظاهر وبعضها مخفي، وقد يتسلل اللأمرئي ويطمس المرئي أو يشوش عليه وفي أغلب النصوص يحضر الذات ثم يختفي ثم يتوارى وقد يهرب الشاعر متعمداً من وصف الحالة النفسية
يحيطُ بيَ النّملُ كأنّي
قطعةُ حلوى،
هنا لم يعرب عن خوفه من النمل والذي يحاصره، حتى الأوبئة المتفشية لا تخيفه كأنه يقول لا أخاف من الموت وهنا كأنه يعرض تجربة جمعية وجماعية وليست ذاتية محضة فالكل يعيش مناخات وتجربة الموت وربما الأفضع فالموت في بلاد الحرب قد يكون أكثر وحشية من النمل والفيروسات الفتاكة، فيروس الحرب هو من جاء بالموت العنيف وهو الأكثر خطورة وعنفاً من الموت.
ثمة عناصر طبيعية وبيئية يستمدها الشاعر عبدالغني المخلافي من بيئته القروية الريفية ويجعلها تخرج ويفتح لها المساحات لتكون كونية وليست حبيسة هذه الجغرافيا المعزولة وهذا التعامل لبعض المفردات والأفعال البسيطة اليومية لجعلها تتعانق مع أحلام أصدقائه جميعاً هو رغبة بحلم أكثر رحابة في المساحة والزمن، ولعل كل ما يحتاجه هو ونحن أيضاً والأرض والسماء (جرعةٌ من الحبِّ) وربما هو لا يقصد مجرد المرض أي التوعك، كل ما حوله وحولنا مصاب بالسقم لذلك هو يسارع بعمل عدة أفعال كثيرة يريد تجاوز المنافذ ويركض في حقولِ الشِّعرِ ويلتقط ما حوله من كلمات و..و..، وكل ما يتمناه الهروب، يختم نصه بقوله :ـ
بعيدًا عن تيّارِ الأوجاعِ
وقصفِ العواصفِ.
هنا القصف قد يكون قصف المدافع والقاذفات، هي الحرب تظل حاضرة وإن غابت فقد تحضر بعض مفرداتها حتى الطبيعة تتوحش وهنا قد ينطبق المشهد على كل مكان تعبث به الحرب فهي القسوة والتشويهات تغتال كل جميل بالداخل والخارج.
في ديوانه الذي صدر حديثاً بعنوان (غرفة بعين واحدة) والصادر عن دار المثقف بالقاهرة، وهذا الديوان سيكون مادة لندوة نقدية في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح وذلك مساء الثلاثاء السادس من يوليو المقبل ومع مجموعة من النقاد والناقدات، هذا الديوان ويبدو أن أغلب نصوصه كتبها الشاعر عبدالغني المخلافي بعد عودته من غربة قاسية وطويلة وهنا كمن يعود ليكتشف كل شيء في قريته أي الشجر والحجر والبشر والسماء والأرض وقبل ذلك ذاته وتزخر بعض النصوص بزفرات ساخنة وحتى عتبة العنوان غُرفة بعين واحدة، قد يوحي أن ثمة بحث عن شركاء وكأنه يحضهم والأكثر هو يحض عينه الثانية أن تشارك برسم المشهد.
لنختار أحد النصوص
ذهولُ
المطرُ يَهْطِلُ
ولا أجدُ من يشاركُني الحديثَ
أنظرُ إلى القرى
بشراهةٍ أدخنُ
ثَمَّةَ أشياءُٗ تحتاج
إلى لمسةٍ حانية؛ لتعودَ مضيئةً
ونظيفةً
ثمَّةَ فَوضَى
أشعرُ بتثاقلِ الساعاتِ
كلما وددتُ القراءة
لا تسعفني الرغبةُ
ولا يطرق مخيلتي الإلهامُ
يلفني ضبابُٗ كثيفُٗ
وذهولُٗ شاملُٗ
لا أستطيعُ طردَ ذبابةٍ
عن أرْنَبَةِ أَنْفِي
أو رفعَ قِنَّيْنَةَ ماءٍ
إلى فمي الجافَّ
لا نبضّ، لا إيقاعَ، لا نافذةَ مفتوحةً
أسمع هذيانَ الموتى،
البومَ المُعَشَّشَ
بين الجدرانِ
والأشجار الخالية
من الثمار
تنتشرُ المستنقعات والمزابلُ
أهرب إلى إيقاع الكلمةِ
الصباح المزهر.
هذا النص، يجعلنا في حالة ذهول، كوننا مع حالة إنسانية، مع شاعر يعود إلى ديارة في زمن الحرب والمتغيرات، هذه التصويرات والتشابكات لا تمثله وحده، فهي تراجيديا جماعية، تبدأ بهطول المطر والذي يتحول إلى عنصر عزلة وربما يكون هذا المطر ملوثاً أو هو الآخر قاسياً ويحمل عنصر التدمير، الشاعرمن نافذته أو فوق قمة، نراه ينظر إلى القرى، لا أحد يشاركه الحديث أو حتى المخاوف ورغم أنها جماعية ولكن رُبما يعزل كل واحد نفسه ويكتم خوفه، يدخن بشراهة، حيلة العاجز أو بحثاً عن موت لطيف.
قصيدة أو نص عبدالغني المخلافي، حافل بالمفخخات المؤلمة، يبني صورة حالمة ثم قد يدمرها بعنف ولعل ما يحفل به الواقع أكثر من التدميري وكأنه في بعض اللحظات يعرضه بلطف قدر المستطاع وكأنه يُشفق علينا من تلقي الصدمات، يُشفق على نفسه ويواسيها ببعض الأحلام المستحيلة والبعيدة جداً، لا يتسول عطفنا ومواستنا، (ثمَّةَ فَوضَى) يعيشها وربما الكون يعيش هذه الفوضى فهي فوضى كونية وذاتية، من الكوني إلى الذاتي إلى اللحظة ويصور عجزه عن طردَ ذبابةٍ، فمه جاف..هنا دراما أو تراجيديا معاشة حيث الزمن الثقيل والضجيج و..و..، كأن عقله لم يعد يستوعب ما يحدث بداخله أو حوله، ما يحدث في اليمن المعزول والبعيد عن اهتمام الجميع وهنا لا نبض قد تعني لا نبض في قلب الإنسانية لتشعر بهذا البلد حيث تولد تراجيديا كل لحظة وليس كل يوم أو شهر أو سنة.
يحفل ديوانه هذا بالكثير من التوريطات المفجعة وكانولايزال الشاعر عبدالغني المخلافي مجرد شاهد عيان وحالم بسلام وطمانينة، يهرب من التراجيد مشفقاً علينا، يحلم ويحلم ولا يمل من الحلم والدعوة إلى الحب والمحبة والسلام.