لم أجرؤ قبل عيد ميلادي هذا أن أقول ما سأقوله هنا لأني لم أكن متأكداً مما سأقوله. فأنا من جيل تربى على “عمر وتعدى التلاثين…” و “لا ياولدي تدري الكُبُر هدني…” و “يا الله حسن الخاتمة..” وأنا أنتمي لثقافة أجتماعية تغتال الثمانيني،وتقضي على حياة السبعيني ،وتنهي آمال وأحلام الستيني،وتشفق على الخمسيني. حينما سافرت أول مرة الى لندن قبل عشرين سنة أستغربت كيف أن ثمانينية ما زالت تلبس أحدث الثياب وتتبرج بأفضل زينة! وفاجئتني رؤية السبعينيين والثمانينيين وهم يرتدون ملابس الرياضة ويركضون في الساحات والشوارع أو يركبون الدراجات الهوائية. قلت في نفسي لتبرير أختلافهم عن “شيابنا” ،وكنت أحمل منظوراً مختلفاً للحياة، هذا شعب يحب الحياة ولا يهتم بالمماة. أما “شيابنا” فأنهم يعملون لأخراهم لا لدنياهم!
كرّت السنون وجاءت الأيام التي كنتُ أخشاها في شبابي فوجدت أن ما خشيتهُ ليس سوى أوهام في عقلي لم يصدّقها الواقع ولم تجسدها الوقائع. اليوم أتممت الرابعة والستين دون أن ينحني ظهري كما صوّرت لي ثقافتي،ولم تمتلىء خزانتي بعلب الأدوية، وما زلت قادراً على حمل ذات الأحمال التي كنت أحملها سابقاً،بل بتُّ قادراً على ركض مسافات طويلة يومياً دون أن أتعب،بعد أن كنت أتعب في أول كيلومتر في ثلاثينياتي. اليوم أستطيع أن أسبح لمسافات أطول بكثير مما كنت أفعله في “شبابي” وألبس أجمل بكثير مما لبسته في شبابي. أصبحت أكثر رضا بكثيرعن نفسي،وشكلي،وجسمي،وعقلي وحياتي! نعم،ما زلتُ أؤمن بالآخرة والميعاد لكني أستمتع وكأني مخلدٌ للآباد.
أوهمونا أن التقاعد يعني الموت البطيء،فوجدته الحياة السعيدة.قالوا لنا ستكونون زوار دائمين للمستشفيات،فوجدت نفسي زائراً دائماً للكتب أتريض في رياضها وأتجول في جنّاتها وأستزيد من راحاتها. بعد الستين صارت حياتي أجمل،وعلاقاتي أنضج،وتفكيري أكمل. صرت أكثر تفهماً للآخرين وخلافهم معي ،وأكثر تقبلاً للآخر المختلف عني. بتُّ أقل تصلباً وأكثر وسطيةً وأشد فرحاً بما متاح لي من الحياة. لم أستمتع في الثلاثينات بعلاقاتي مع أولادي كما أستمتع بها مع الصغار من أبنائي وأحفادي. كنت أكثر قسوةً مع أولادي الكبار وأقل أهتماماً بما يفعلون،ولا أنشغل كثيراً حين يزعلون أو ينفعلون. أما صغاري وأحفادي اليوم، فقد صرت ألعب معهم وكأني قرينهم،وأتأتأ في كلامي وكأني مثيلهم. أضحك معهم لأتفه الأسباب،وأزعل لزعلهم دون حساب.صرتُ أكثر تحملاً لشقاوتهم،وأكثر تفهماً لغضبهم وأشد فرحاً بمناكفاتهم. لم يخبو عندي الأمل بجديدٍ القاها في غدي ولا بفرحٍ القاها في يومي. لم أعد أخاف كل يوم جديد لأنه يقربني من قبري بل بتّ أرقب الجديد الذي سيحمله لي يومي.
مضى ربع قرن على حصولي على الدكتوراه لم أتمكن فيها الا من كتابة كتاب واحد فقط،في حين أنتجتُ ست كتبٍ في سنواتي الثلاث الأخيرة! ولأني من الذين يؤمنون بفلسفة أن الحقيقة ليس لها وجود خارج العقل فأقول لكم أن الحياة هي ما تصنعون وليست ما يُصنَع بكم. نعم،نحن نعيش الحياة وننتج فيها ونعمّرها بعقولنا لا بأجسامنا.
أن من يرى حياته قد أنتهت فهو الذي أصدر حكم الأعدام على نفسه،ومن يرى أن حياته مثل الأرض فسيعيشها جميلة هانئة يترقب أُكُلها ويستطيب ثمارها. أن ما سنعيشه في سني حياتنا المتأخرة هو حصاد ما زرعناه في سني حياتنا المبكرة. فأذا زرعنا الصحة والمعرفة والحكمة حصدنا راحة الجسد والبال،وحب الحياة والجمال،والنضج والكمال.أما أذا زرعنا الجهل وسوء التعامل مع أيام الصبى والشباب فلن نحصد الا المرض والتعب والموت.