قبل أيام كنت اتابع لقاء على احدى الفضائيات، تناول فيه الحديث انتخابات مجالس المحافظات التي أعلنت الحكومة انها ستجري في ١٨ كانون الأول ٢٠٢٣. وكان المتحدثون من أطياف سياسية متنوعة، بضمنهم ممثل قوة سياسية متنفذة شاركت في الحكم منذ ٢٠٠٥
وكان اللافت في حديث الرجل رفضه أية اشارة او تنويه بشأن ربط نزاهة الانتخابات وعدالتها بموضوع السلاح، وأي حديث عن المال السياسي وتأثيره على سير الانتخابات وما يتعرض لها المرشح والناخب من ضغوط.
ولابد من التذكير هنا بان قانون الأحزاب السياسية النافذ يحظر على الأحزاب والقوى والتجمعات السياسية امتلاك السلاح، ويحرّم مشاركة من يمتلكه منها في الانتخابات. كما انه واضح في ما يخص مالية الأحزاب ومصادرها، وينص على ان تصرح هي بذلك وتقدم ماليتها المصدقة سنويا الى دائرة شؤون الأحزاب في مفوضية الانتخابات.
ويتلمس المواطن العراقي جيدا، كل يوم بل كل ساعة، تأثير السلاح والدور الذي يلعبه، والسعي المتواصل الى عسكرة المجتمع وتشكيل جيوش موازية وحتى منافسة للمؤسسات العسكرية والأمنية الدستورية. وذلك ما يتحدث عنه اقطاب متنفذون وقوى مسلحة جهارا ويبررون ذلك بمختلف العناوين والذرائع. وما استعراضات القوة ومظاهر التسلح الاخرى والنزاعات المسلحة الا دليل على ذلك.
وتشكل النزاعات المسلحة العشائرية التي ما انفكت تحصل لاسباب خارجة عن المنطق وجها آخر لانفلات السلاح، الذي غدت مناطق كاملة بفعله مغلقة يصعب على القوات النظامية الوصول اليها.
ومن الغرائب ان يعلن مسبقا منذ الآن من قبل قوى سياسية وعشائرية مسلحة وغير مسلحة، وبما هو اقرب الى التهديد والوعيد، عن جعل مناطق معينة خارج المنافسة الانتخابية وحكرا لها، وانها لا تسمح لاحد بمنافسة ممثليها فيها !
اما المال السياسي فتجلياته واضحة للعيان، وتتعدد مهامه لتشمل الحملات الانتخابية الباهظة التكاليف، وتمويل حملات مرشحين معينين، وشراء الذمم والاصوات، والاستحواذ على بطاقات الناخبين، ورشوة الناخبين عبر تقديم قطع السلاح، وسيارات جكسارة، والمسدسات، والقماصل، وتوزيع المواد الغذائية، واغداق المبالغ المالية التي منها ما هو خيالي، وتقديم وعود بالتعيينات وحتى تنفيذ قسم منها فعلا، وتوزيع قطع أراضي، وغير ذلك.
وفي السنوات الأخيرة تطور دور المال السياسي الى تشكيل كيانات سياسية مستقلة ظاهريا، فيما هي تابعة للممول وتستقي قرارها منه. وهذا المموّل متعدد ومتنوع هو الآخر: جهات سياسية ودينية، أصحاب اعمال ومقاولون، مسؤولون كبار في الدولة “طافر” (!)، فضلا عن جهات خارجية متعددة.
وهذا المال السياسي يغذي أيضا حملات مضادة لجهات وشخصيات ومرشحين منافسين او يحتمل ان ينافسوا، وبضمنها محاولات احتواء، فان لم تنفع فهناك الجيوش الالكترونية الجاهزة للدس والتشويه وإلصاق التهم والتقسيط السياسي والاجتماعي، وافتعال المعارك الجانبية .
كل هذا وغيره يجري على المكشوف، فيما السيد ممثل القوة المتنفذة لا يقبل من احد ان يتحدث عنه! لكننا لا ننكر فضله في تحفيزنا على الكتابة عن هذا الموضوع عشية انتخابات مجالس المحافظات.
وتبقى كل هذه الأمور تشكل تحديا كبيرا، فمقابل إصرار المتنفذين على إدامة احتكارهم للسلطة بمختلف الأساليب وحتى باقذرها، لابد من إصرار مقابل على وقف هذه اللعبة المشوهة لابسط قيم ومباديء الديمقراطية، وعلى كسر هذا الاحتكار.
وازاء هذه الظواهر جميعا وغيرها تقع مسؤولية كبيرة على عاتق مفوضية الانتخابات والجهات الحكومية الأخرى، لضمان تتمتع الانتخابات القادمة بالمعايير التي تجعلها معبرة فعلا عن إرادة المواطنين وتطلعاتهم.