أصيب العديد من المراقبين بالدهشة من اصدار الخزانة الاميركية لعقوبات لاربعة عشر مصرفاً عراقياً ليضافوا الى المصارف الاربعة التي تمت معاقبتها قبل اكثر من سنتين. بمعنى ان اكثر من ربع عدد المصارف العراقية باتت محرومة من الدولار الامريكي وهو عملة التداول الرئيسة في العالم والمصدر الاساس لربح تلك المصارف التي تعتمد على بيع العملة وشرائها! هذه الضربة الجديدة للقطاع المصرفي العراقي من قبل الادارة الاميركية ستترك اثار سلبية على سعر صرف الدينار والاقتصاد العراقي سأترك مناقشة آثارها للمختصين.لكني هنا اود التركيز على الرسالة او الرسائل التي تضمنتها هذه العقوبات بخاصة وانها جاءت بعد شهر عسل طويل لحكومة السوداني واطارها التنسيقي مع الادارة الاميركية!
لقد كان مفاجئاً،بل ومستغرباً للكثيرين هذا التناغم والدفء الذي امتازت به العلاقات الاميركية-الإطارية الى الحد الذي اعتقد الكثيرون ومنهم كاتب هذه السطور أن هناك اتفاقاً اميركياً-ايرانياً شبيه بذلك الذي انعقد بين الطرفين لازاحة علاوي والمجيء بالمالكي في عام 2010. وشخصياً،ذكرت ذلك صراحة لأحد المطلعين على الملف العراقي في واشنطن. وعلى الرغم من انه لم ينفِ هذه الفرضية لكنه قال لي اننا في هذه المرة لن نصدّق الاقوال ما لم تدعمها الافعال.وشدد قائلاً ننتظر افعال. لقد كان إصرار الادارة الاميركية على عدم تمديد المهلة التي اعطيت للعراق للالتزام بقواعد التحويل الدولي وعدم التخفيف من تلك القواعد حتى بعد ان ذهب وفد حكومي الى واشنطن لمناقشة الموضوع،هو اول اختبار وأول إشارة ان الاميركان ربما يتوقعون أكثر بكثير مما يصرحون به.
لقد استرعت اللقاءات والاجتماعات للسفيرة الاميركية في بغداد الانتباه ليس فقط لكثرتها بل لنوعيتها إذ لم تكتفِ بلقاءاتها العديدة مع السوداني بل اردفتها بلقاءات مماثلة(مغلفة بدبلوماسية ناعمة)مع عدد من قيادات الاطار. وعلى الرغم من عدم رضا الاميركان من كل التشكيلة الوزارية للسوداني لكنهم تعاملوا معها بدبلوماسية واضحة واطلقوا كثير من التصريحات الايجابية التي خُيل للمراقبين انها توحي بوجود اتفاق شبه تام يرقى للتحالف مع حكومة الاطار. لقد عزز التقارب الايراني الخليجي (بخاصة. السعودية)وتطور المفاوضات النووية بين ايران وامريكا من هذه الانطباعات والاجواء الايجابية لعلاقة حكومة السوداني مع ادارة بايدن. وفي ظل هذه الاجواء كان يبدو مستغرباً هذا الاصرار الامريكي على عدم تخفيف شروط النافذة الالكترونية.كما كان مستغرباً عدم حصول زيارة لرئيس الوزراء العراقي لواشنطن.بل ان وزير الخارجية بلينكن لم يزر العراق!وكان وزير الدفاع الاميركي هو الوحيد الذي زار بغداد في شهر آذار الماضي في زيارة عدّها كثيرون بمثابة رسالة مبطنة لايران بخصوص القوات الاميركية في المنطقة. مع ذلك فقد ظلت الاشارات الديلوماسية الصادرة من بغداد وواشنطن تشير باستمرار الى اتجاه ايجابي حتى بعد ان فشلت مفاوضات تجديد الاتفاق النووي الامريكي الايراني. بل ان هذه الاشارات الايجابية زادت بعد بروز ملامح اتفاق امريكي ايراني اخر سُمي بالطريق الثالث وهو اتفاق يمكن ان يضمن تدفق اموال دولارية لايران مقابل تحسين سلوك الميليشيات التابعة لها في المنطقة تجاه القوات الاميركية من جهة وايقاف زيادة درجة تخصيب اليورانيوم من جهة اخرى. وفعلاً كانت بادرة هذا الاتجاه موافقة اميركا على تحويل 2.7 مليار دولار من الاموال التي يدين بها العراق لايران مقابل الغاز المصدر للعراق.
لكن مرة اخرى كانت هناك رسائل متناقضة بين الطرفين تمثلت في مهاجمة الميليشيات المدعومة ايرانياً للقوات الاميركية في سوريا ورد تلك القوات على هذه الميليشيات. كما كان لتصريحات ومظاهرة فصيل عراقي مسلح جديد (اصحاب الكهف)ضد السفارة الاميركية فضلا عن تصريحات بعض قيادات الفصائل المسلحة ضد التواجد الامريكي أثر في تذكير الاميركان ان مواقف مكونات الاطار التنسيقي وداعميه العراقيين والايرانيين لا تبدو متسقة مع بعضها ولازالت تحمل نفس النغمة المعادية السابقة.
ثم جاءت خطوة رئيس الوزراء العراقي بالاتفاق مع ايران على تبادل النفط العراقي مقابل الغاز الايراني لتسكب مزيد من الزيت على النيران الراقدة تحت جمر علاقات الاميركان مع حكومة الاطار. فبالنسبة لاميركا التي لم تتم استشارتها قبل التوقيع على هذا القرار ،يعد ذلك خرقاً للعقوبات الاميركية المفروضة على ايران وهو ما يضعف كثيراً من موقفها التفاوضي لعقد صفقة او اتفاق جديد مع ايران بخصوص برنامجها النووي. لكن في ذات الوقت تدرك اميركا ان الالة الاعلامية الايرانية والإطارية نجحت في تحميل امريكا سبب انقطاع الغاز الايراني وبالتالي الكهرباء في ذروة حر الصيف مما اثار غضباً شعبياً عراقياً ليس ضد الحكومة بل ضد الادارة الاميركية. لذا قامت اميركا والتي ترغب بشدة لكسب معركة الرأي العام العراقي بتمديد استثناء صادرات الغاز الايراني لاغراض الكهرباء للعراق من العقوبات لمدة اربعة اشهر جديدة. ولكي لا يفهم ذلك خطئاً بانه مزيد من رضوخ امريكا للطلبات الايرانية وحلفائها العراقيين فقد اصدرت الخزانة الاميركية امرها الاخير بشمول 14 مصرفاً عراقياً جديداً بالعقوبات الاميركية نتيجة تعاملها مع ايران. بذلك فان الاميركان يحاولون ارسال رسالة مفادها (اننا لا نريد تحميل الشعب العراقي وزر عقوباتنا لايران لكننا في نفس الوقت لن نسمح بخرق هذه العقوبات خارج الضوابط التي ترسمها سياستنا تجاه ايران).
ان ما يجب ان نفهمه جميعاً وبالذات متخذي القرار عندنا وفي مقدمتهم السيد السوداني ان كل دول العالم لا تبني علاقاتها الا على مصالحها وانه لا توجد دولة تلعب دور الجمعية الخيرية وفي مقدمتها امريكا. أمريكا لديها مصالح في العراق والمنطقة ،وبغض النظر عن رأينا بمدى شرعية او اخلاقية هذه المصالح فانها ستستخدم كل روافعها السياسية والاقتصادية والعسكرية لتحقيق تلك المصالح. وهكذا تفعل ايران وهكذا ينبغي ان يفعل العراق. ان مدى الاستجابة لمطالب اي دولة من العراق ينبغي ان يكون على اساس قراءة صحيحة وليست عاطفية او متصورة. فمن يعتقد ان امريكا ستمنح حكومة السوداني شيكاً على بياض وشهر عسل مفتوح هو واهم.كما ان من الخطأ بناء علاقات مع امريكا على اساس مدى تقدم او تعثر المفاوضات الايرانية الامريكية. صحيح ان اهمية العراق لامريكا لم تعد كالسابق لكن كل المؤشرات تدل ان مصالحها في العراق لا زالت مهمة لامنها القومي ولذلك لا يتوقع تخليها عن بناء علاقات موثوقة مع العراق. ان دور الحكومات العراقية سواء الحالية او المستقبلية هو دراسة متغيرات الواقع السياسي وادراك كيفية تأثير متغيرات ذلك الواقع على مصلحة العراق،وليس اي دولة اخرى.