بعد عمل مضن لأربع سنوات ظهرت مدينة السلام (بغداد المستديرة) على الضفة الغربية لنهر دجلة عام ١٤٥ هجرية، أيام ابو جعفر العباسي، وبإشراف من ابو حنيفة النعمان، فكانت هذه المدينة بين الكاظمية والكرخ، مركزا سياسيا للحكم، وسورت لحمايتها من ضباع القوم، رغم حمايتها طبيعيا من نهر دجلة، وغاب على من خطها، أن تسويرها، كان سببا بالغا في انتشار السكن خارجها دون تنظيم فكان أول تشويه لها، ثم توسعت جنوبا تجاريا، واتجهت الأنظار شرقا عبر رسالة بغداد حيث تشكلت بغداد أخرى، لتجارة خراسان عبر تجارة الزوارق فضلا عن تجارة شرق أفريقيا والهند وغيرها..
مركزها التجاري وجمال موقعها، وواقعها المتحضر، جعل الكثير يسال لعابه لقصدها، انبهارا وتجارة وسكن وترويح، وما أن أصبحت كذلك، واجهت تحديات الصراع بين المأمون والأمين وتراجع دور الخلافة فيها، والذهاب إلى سامراء، فالسياسة والصراع على كرسي السلطة أنتج الخراب والتراجع فيها وهذا أيضا من ساهم في تشوهها، ولم تسلم بغداد من الهجمات الخارجية من البويهين والسلاجقة والمغول وغيرهم الذين جعلوا منها محط للصراعات والقتل والتخريب وهجر الزراعة،والهجرة والتشويه، وطيلة قرون عدة أضحت بغداد غير تلك التي أسست؟.
وما أن نهضت مرة أخرى بعصر نهضة من الترجمة والصناعة والبناء والرقي، عاشت مرة أخرى تحت نير السيطرة العثمانية والاحتلال البريطانى، ثم عدم الإستقرار السياسي بعد استقلال العراق عام ١٩٢١م، إذ النظام الملكي الخارجي وتعدد الحكومات، والثورات والانقلابات والحروب وغيرها من العوامل التي ساعدت بشكل واضح في الإستمرار بتشوه المدينة، وغياب منظرها ومظهرها الحقيقي، وسعت الحكومة العراقية إلى إعداد تصميم لبغداد عام ١٩٦٧م عبر مؤسسة بول سيرفس البولندية، التي أكملت مشروع المخطط عام ١٩٧٠م لبغداد حتى عام ٢٠٠٠م، ولم ينجز منه شي بسبب الحرب العراقية الإيرانية، والحصار الإقتصادي، بل ما زاد الطين بلة، إستمرار الهجرة إلى بغداد، وتدمير النسيج الحضري والاجتماعي لها، وغياب التنظيم، وعدم وجود الرؤية الحقيقية لحاضرها ومستقبلها، لتتحول بعد عام ٢٠٠٣م، إلى مدينة التجاوزات وتفتيبت أراضيها الزراعية التي تحيط بها من جميع الجهات، فغاب حزامها الأخضر؟.
وما زاد من الأمر سوء تشوهت بغداد هذه المرة، بمنح الإجازات الإستثمارية، بطريقة وعقلية، لا تمت للاستثمار والتخطيط والحضرية بشيء البته، إذ منحت لمجمعات سكنية عمودية عالية الكلفة في قلب المدينة النابض والتجاري، دون مراعاة طرق النقل وساحات وقوف السيارات وسعر الأرض ومشهد المدينة، وهذا تشويه بسبب الجهل والفساد وعدم التدبير، واليوم تتنافس الأحزاب واذرعها على الاستحواذ على الأراضي المهمة والفارغة، دون أي دور لأمانة بغداد، وكذلك محافظة بغداد، فبغداد الحدائق والأنهار والضفاف والنخيل والطرز المعمارية، أصبحت من الماضي..فمتى تعود؟؟..