بعد عام ونيف من اعتقال اخي الأكبر السيد جمال طالب في كلية الهندسة، ، خطفوا اخي السيد جلال مواليد 1964فتى يافعا طالبا في الدراسة الثانوي وذلك يوم الخميس 25/12/1981م وذلك عند الساعة السابعة والنصف وبضع ثوان صباحا، كان الجو باردا غائما وتتناثر قطرات من مطر، وكعادة والدي رحمه الله يتولى إيصالنا بسيارته أنا وإياه كل صباح، ولأن مدرسته أقرب من كلّيتي يجلس هو في المقعد الخلفي .
عند تقاطع شارع دارنا مقابل المنظمة الحزبية (أحد بيوت المسفرين المغتصبة) أوقفنا اثنان من المدنيين يرتدون (سفاري)، وألقوا تحية الصباح بعجل على والدي، عرفتهم على الفور من هيئتهم ووجوههم المكفهرة وزيّهم المميز، دق قلبي سريعاً، حين مد أحدهم رأسه من نافذة السيارة قرب والدي، وسأل أخي مخاطبا إياه: أعطيني هويتك؟ فأعطاه هوية المدرسة الإعدادية أخرجها من جيب قمصلتة الرمادية القديفة، ما زلت أتذكر أنه اشتراها قبل يومين فقط، أخذ الهوية ونظر إليها نظرة خاطفة لم تمكنه حتى من قراءة جميع تفاصيلها وقال: تفضل معنا.. صاح أبي مصدوما: “وين؟ وين تأخذوه؟ هذا طفل؟ شعنده؟ “.
فأجابه بارتباك : “لا تخاف حجي مجرد جم سؤال بالمنظمة الحزبية ونرجعلكياه”… وسحبوه من السيارة وهو يحمل كتبهُ وفوقها سندويج (لفّة) كانت أمي قد أعدته له كما في كل يوم.
واقتادوه إلى سيارة لاندكروز بيضاء، وأحاط به أربعة منهم وبسرعة دفعوه إلى داخلها وتحركت مسرعة الى حيث لا نعلم.. تبين أنهم اعتقلوه في أمن الثورة وليس في المنظمة الحزبية كما ادعّى، فالمنظمة مقرها حيث أوقفونا..
خيم السكوت علينا أنا ووالدي، وركن سيارته متحيراً، وصمته يحكي قصص ضيم كل العوائل الشريفة التي يختطف أبناؤها أمامها متى شاء الطغاة، وكأن كل أب وأم يربيان ولدهما ويسهران على راحته كي يصبح رجلاً أو يكاد، ثم يكون فريسة مخالبهم تنهش يومياً أجساد ضحاياهم لمجرد الشك بأنهم معارضون، أومن أقرباء المعارضين، وأنا أشاطره صمته المؤلم هذا ولا أقوى على مقاطعته فالموقف فرض نفسه علينا عنوة ليحيل صباحنا الى ليل مظلم .. قطع صمته بصوت حزين كاد أن يكون أنينا: “ها بابا أرجعج للبيت ؟ لو أوصلج للكلية”؟ .. فأجبته على الفور وكأنه أنقذني من قلقي : “لا بابا عفية للكلية .. “، نعم جبنت من مواجهة أمي وإعلامها بماجرى.
منذ ذلك اليوم غيبوه ككل المعارضين بغض النظر عن عمره الصغير، ولم نعرف مصيره الا بعد سقوط الطاغية، حيث نشرت قوائم عديدة على جدران دوائر الأمن عثر عليه أهالي الضحايا، وعلقوها لتعرف عوائلهم مصير أبنائهم بعد طول انتظار.
بعد سقوط الطاغية عثرنا على شهادة وفاة صادرة من مستشفى الرشيد العسكري مثبت فيها اسمه، المهنة : طالب، الجنسية : عراقي ، الدين او المعتقد: مسلم، الحالة الزوجية : أعزب، سبب الوفاة : الاعدام شنقا حتى الموت، المبلغ عن الوفاة : 5488، وذلك يوم 2/8/1983 بعد أقل من عامين من تاريخ اعتقاله.. أي جرم اقترف هذا الشاب اليافع ليعدم في تلك المؤسسة الصحية التابعة للجيش العراقي بالشنق حتى الموت؟ أي منظومة حكومية خضعت لرغبات الرئيس المقبور وسخرها لقمع أبناء هذا الوطن؟ وأي استهانة بطلبة العراق ؟
ظلت أمي تنتظر عودتهما وجلال بالذات كونه حدثا، ولكن دون جدوى، قلبها يحدثها بأن الله قد حفظ يونس في بطن الحوت وحفظ يوسف في قاع الجب، وسيعودان لها وتكتحل عيناها بعد أن أرمدتها الدموع.. جهزت لهما جهاز العرس وجمعت لهما مصروفهما الاسبوعي مثل ماكان والدي يعطينا “اسبوعيات”.. ولا يسع السطور أن توصف ما حلّ بها عندما علمت بموتهما ورأت شهادة الوفاة، ظلت تأن وتسأل كيف ماتا وأين دفنوهما؟
وغبطت والدي أن توفاه قبل أن يعلم أنهما قد سبقاه الى بارئهم..نعم لم تعاني عوائل مفقودين كما عانت عوائل شهداء العراق، ظلت الامهات والزوجات في أمل كبير أن يزول كابوس الاستبداد ويعود الأحبة، ظنوا أن من حكم العراق لهم قلوب البشر ويحاكمون الناس على جرائمهم، وأحبتهم لم يقترفوا جرما..وربما هي طمأنينة من الله بها على قلوبهن تعينهن على كرور الدهر، واستمرت الحسرات تتجدد عند فتح كل مقبرة جماعية عسى أن تكون قد ضمّتهم، وعزاءنا الوحيد أن أرواحهم الزكية قد تسامت الى عليائها وإن غيبت عنا الأجساد والقبور .
الى الله نشكو بثنا وحزننا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
سلام الى روحك اخي الغالي في يوم استشهادك .. لن انساك فلا تنساني بالشفاعة .